منذ قرأت عبارة ابن خلدون «الظلم منبئ بخراب العمران» التي عنون فيها أحد فصول كتابه الشهير «مقدمة ابن خلدون»، الذي لخص به كتابه الضخم بعنوانه الطويل «كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، فقد ربطت من يومها بينه وبين «سيدي حسن عبد الله»، حتى لا يمرّ ذكر الأول حتى يخطر في بالي الثاني، ترى ما الذي ربط بينهما؟
كان أحد دروس اللغة العربية في أحد الصفوف الثانوية في الثمانينيات، لعله التوجيهي، قد أخذ العنوان نفسه» «الظلم منبئ بخراب العمران»، حيث تعرفنا على ابن خلدون الملقب بأبي علم الاجتماع.
قال ما قاله ابن خلدون، الذي خبر العالم الذي تنقل فيه شرقاً وغرباً، يتأمل المجتمعات وقيام الدول وسقوطها ورصد أحداث التاريخ، من وحي تأمل حركة البشر والدول، فما من مفكّر وفيلسوف إلا وقد اطلع في مرحلة ما من حياته الفكرية على حركة التاريخ. أما «سيدي حسن»، فقد تأمل هو الآخر في قريته الصغيرة ومن حولها، وشاهد كيف أصبحت دور الظالمين خراباً. ولعلّ سيدي أيضاً قد سمع من آخرين هذه العبارة، حيث أنه في البحث عنها، وجدنا أنها قد نسبت لكثيرين.
ثم أسمع والدي «والختيارية» يرددون تلك العبارة بشيء من الاعتبار، حيث شكّل ذلك لنا عظة ما رغم عمرنا الصغير، فثبت مضمون القولَين في اللاوعي لدى الفتيان ولدى من سبقنا.
إذاً التأمل مفتاح الفكر، ومن ثم السلوك، باتجاهات إنسانية؛ فيبدو أن الظلم داخل المجتمعات، وبينها وبين بعضها بعضاً، يعني بث بذور عدم الاستقرار التي تنمو فتكون عاملاً مخرباً للجميع، لمن زرع وحصد.
هي منظومة، تبدأ بالظلم الاجتماعي وصولاً للظلم الدولي؛ كون العدالة المجمع عليها لها طريق معروف، وهي لا تنطلق فقط من منطلقات صاحب القوة ومصالحه، لذلك عرف العالم معنى العيش المشترك داخل التجمعات، ومن ثم بين الأمم، لأنه وحده من يشكل ضمانة استمرار الحياة.
لذلك، فإن من الفطرة اجتماع الناس ضد الظلم، وتضامنهم مع المظلوم، ولعل تلك من أهم منجزات الحضارة، كما أن البشر يخشون أن يكونوا مكان المضطهدين، فهم برفضهم ظلم الآخرين يبعدون ظلماً قد يطالهم.
وعليه، فإن تأمل سلوك البشر والدول والممالك، أكان ما تأمله «سيدي حسن» أو ما تأمله ابن خلدون والمفكرون يعني أمراً واحداً، وهو العبرة في النتائج، فلا مستقبل حقيقياً يدوم للظالم، الذي سيمر الناس عن مقراته التي كان يسطو على الناس فيها، فيجدونه قد رحل عنها.
ولا يقف الأمر عند ذلك، حيث أن الظلم نتيجته وخيمة بمعنى الكلمة، لأن الظلم سيقود لأفعال وردود أفعال، لن يكون من السهل على الظالمين السيطرة عليها تماما.
«الناس الها خطية»، إنه إنذار لم يصغ له الظالمون، لأن العدل والجزاء يتحقق في حياة الظالمين أنفسهم. هو وصف بليغ فعلاً، ولن يستطيع الظالمون النجاة من القصاص، ولا الخلاص، وسيصعب الآن ومستقبلاً أن ينجوا من جرائمهم.
إن تأمل فعل الظالمين، والسكوت عن أفعالهم يهزّ الأمن والاستقرار، حيث لا يستطيع الناس - الشعوب والحكومات، أن يحيوا بشكل طبيعيّ وعاديّ، في ظل ممارسة الاضطهاد على آخرين.
إن النظرة الموضوعية التي تراعي أدنى الحقوق، والقيم، والعدالة، تجاه ما يحدث من ذبح في بلادنا، تستنكر أفعال الشرور، كما استنكرت تاريخاً حافلاً من الاضطهاد الذي تعرضت له شعوب كثيرة قديماً وحديثاً. ولكن الغريب والعجيب والمعيب أن اضطهاد الشعوب والاستقواء عليها استمر من خلال السلاح المتطور تكنولوجياً للقتل عن بعد؛ فليست فلسطين استثناء، فعلى مدار الاستعمار الحديث ونحن نقرأ فصوله التي لم تنته فعلاً.
«دور الظالمين خراب»، يا سيدي حسن، ويا بن خلدون، ولكن المشكلة أن غرور الاستعمار وقسوته ولاإنسانيته تدفعه لعدم تقدير ما يقدم عليه من جرائم؛ فمن سيحاسب الاحتلال على جرائمه الظاهرة فعلاً؟ ومن سيكفّ يده عن استمرار فعل القتل الذي يتم فقط لأجل قتل الناس وتهجيرهم؟
يصعب دوماً تقبل ما يكون، كما يصعب تقبل ما كان، ولكن المأساة أن ذلك يستمر، ولا ضمانة للمستقبل بأن يخلص من شرّ الظالمين الذي في النهاية يطال أصحابه. هكذا كتب المؤرخون عن الدول والممالك، وعن الناس في التجمعات البسيطة.
مهما قلنا، فإن الغزاة لا يستمعون فقط لنا بل يسخرون منا، ومن كل صاحب ضمير، ووصلت سخريتهم من العالم كله، بحجج كاذبة، فكيف يقرأ العالم استهزاء الاحتلال بالمؤسسة الأممية، التي تمت معاقبتها هنا؟
ولأن دور الظالمين هكذا ستكون خراباً وتخريباً، فلن يتقبل البشر ما يكون، بل إن سخرية الاحتلال من الشعوب والقوانين الدولية ستكون عاملاً في زيادة كراهية الاحتلال الآن وغداً، بل ستنتزع الثقة، ولن تكون هناك علاقات طبيعية فعلاً، حتى ولو تم عقد اتفاقيات تطبيع تحت تهديد السلاح طبعاً. كذلك، فإن الشعوب ليست الحكومات، وسيسلب التطبيع مع الاحتلال العلاقة بين الحكومات والشعوب.
للأسف، يبدو أن الحديث لن يكون حاسماً إلا إذا صار موقفاً دولياً حاسماً ضد الاحتلال وجرائمه، بدءاً باستمرار حراك الشارع العالمي وصولاً لحراك سياسي للحكومات.
إن إيقاف الحرب على فلسطين وحل مشكلات أخرى في العالم، ستكون بمثابة بثّ الأمل لدى الشعوب، والتخفيف من قلقها وخوفها، فليس بالسيف وحده يحيا البشر.
إن جدية التعاطي لوقف الحرب الظالمة تتجلى بأفعال تنطلق من الدول المؤثرة، خاصة الحليف الرئيس لدولة الاحتلال، والذي أصبح متورطاً في الجرائم.
أما نحن فلنا فلسطينياً وعربياً أن نقف معاً، فإن فعلنا ذلك، فإن العالم في معظمه سيقف معنا، فليس هناك ما يبرر الفرقة، بل إن كل الظروف والعوامل تدفعنا للوحدة، عبر التأكيد على نتائج القمة العربية، والسعي الحثيث باتجاه الضغط على الاحتلال. ليس هذا كلاماً رومانسياً بل هو كلام واقعي وعملي. وكل وما عليه أن يفعله، للخروج من هذه المطحنة.
إننا نثق بالعدل والعدالة، وان دولة الظلم لا تدوم، كما لم تدم الدول الظالمة التي مرت من هنا. وسنمر، وأولادنا وأحفادنا يوماً مرددين عبارة سيدي حسن وعبارة ابن خلدون.
البدء يبدأ من هنا أيضاً، من تضامننا الوطني الإنساني، من خلال العدالة والحكمة، فإن صار اجتثاث الظلم بيننا سنة حميدة، تقوم على المساءلة والقانون والحكم الرشيد، فسنقوى وسيهابنا الاحتلال، وسنقفل الثغرات التي يمكن أن يستغلها في نسيجنا الوطني.
ليس أمامنا إلا الذهاب إلى الجوهر، لا الشكل، فإن بقينا مغرقين به، فلا سعد سينجو ولا سعيد، ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن تضامننا العربي، فإن علينا استحقاقات داخل مجتمعنا، وهي معروفة، فكل ما يقوي بقاءنا على الأرض هو طريق صواب، وهو قابل للتحقق، من خلال الاقتصاد القائم على تقوية صمودنا ووحدتنا باتجاه التحرر والخلاص العام، وهذا ينطبق على دولنا العربية أيضاً. تداول المال والسلطة، وخدمة الجمهور، فأي مسؤول مهما كان موقعه هو موجود وتتحقق وجوديته من خلال كونه موظفاً لدى الشعب. صعب أن يظل المتنفذون في الحكم والمعارضة والقطاع الخاص والمؤسسات غير الحكومية الممولة من خارج المجتمع يسعون لخلاصهم الفردي، لأنه لن يتحقق فعلياً، وسيظلون قلقين في وجود قلق نزق متوتر. ولا أحد يضمن لحظة ما، لا ندري موعدها ولا نتائجها، نتأثر بها جميعاً، وأظننا ونحن شعب تحت الاحتلال، لسنا بحاجة إلا للتضامن والتصالح، لا المزيد من التوتر.
وحين نمر على دور الظالمين أينما كانوا هنا وهناك، فلعلنا نأخذ عبرة، ومن بيننا ظالمون ما زالوا يمارسون الظلم، لربما «ارتدعوا» «وخففوا تماديهم»، حتى لا يأتي زمن قريب تكون بيوتهم صارت خراباً، أفراداً ودولاً.