تتواصل حرب الإبادة بكل بشاعتها و وحوشيتها في غزة، ولا تهدأ عمليات القصف والمجازر، ولا تتوقف المجازر التي قضت على مئات العائلات التي لم يبق منها أحدًا أو فردًا يحمل اسم العائلة، وذكرياتها وطقوسها ويورث صفاتها وملامحها وأسماء من ماتوا وقضوا بنيران القصف وقنابل الموت، فتلك العائلات لم يبق لها أثرًا وبعضها بلا قبر يحفظ موتها، بل دفنت في مقابر جماعية مع آخرين، والبعض لا يزال تحت الركام مفقود الأثر.
عائلات اندثرت ومسحت من السجل المدني، وأخرى نجا منها بعض الأفراد الذين أصيبوا، فبترت أعضائهم وباتوا يتامى ومعاقين، لا حول لهم ولا عون في زمن الإبادة والسحق الذي لم يرحم طفلاً ولا شيخا ولا عجوز.
مشاهد تدمي القلب والروح، وصور تنقلها الفضائيات والجرائد لمن بترت أذرعهم، وكأنها تقول لا عناق بعد اليوم، وأخرى لمن بترت أقدامهم وهم في عمر الأشهر الأولى، فأي المصائر تنتظر تلك الطفولة اليائسة، وأي مستقبل يمكن أن يرحم أولئك الذين وجدوا أنفسهم يولدون تحت وقع الإبادة الجماعية، وأي حياة يمكن أن ينتظرونها بأجساد ناقصة وأمنيات مفقودة.
إنها أشهر الحرب المستمرة بكل بشاعة ودموية، والحصار يزيد من ثقل الأيام على الناس في غزة، حيث لا ماء ولا دواء ولا طعام، وبلا حياة وسط جحيم الموت والحرب، والناس يستصرخون الضمائر ويناشدون العالم بالتدخل، ولا أحد يسمع نداء المستغيثين، والكل يقف في زاوية الحياد، وما أقبح هذا الصمت وهذا الحياد. إن أسوأ ما يعيشه الناس في غزة هو هذا التخلي الأممَّي عنهم، فما أقبح هذا العالم الصامت وما أقذر هذا التخلي.
لقد فعلت أشهر حرب الإبادة فعلها، فبعد أن قضت على كل أشكال الحياة، فلم تبق جامعة ولا جامع ولا مستشفى ولا مركز صحي ولا مدرسة ولا مسرح، وقد نكست الآمال والأمنيات، وفضحت زيف وكذب القانون الدولي، وكشفت حقيقة المؤسسات الدولية، وادعاء حقوق الإنسان، وما إلى هناك من مواثيق كانت في السابق تشكل حماية وضمانة للبشر، قبل أن تأتي الحرب في غزة، وقبل أن يتخذ العالم هذا الحياد الجبان الذي ارتضى الصمت، ولم يتحرك فعليًا ليمنع جحيم الإبادة ويوقف الحرب.
وبين صمت العالم وتخاذل المؤسسات الدولية والأممية، تبقى غزة شاهدة على خيانة القيم والأخلاق، وخيانة القانون الدولي، وخيانة الشرائع الأرضية والسماوية، وهي تنتظر من الضمير الإنساني أن يستفيق من سباته الطويل، ليقول كلمة حق توقف النزيف، وتمنح الناس فيها حقهم في الوجود والطمأنينة، وحقهم في النجاة من ويلات الإبادة التي حولت حياتهم إلى جحيم يتربص بهم في كل مكان.