الكوفية:منذ عقود طويلة لم يظهر رئيس أميركي مثير للجدل الداخلي والخارجي على حد سواء، كما هو الحال مع الرئيس الحالي السابع والأربعين للولايات المتحدة دونالد ترامب، ورغم أنه ليس وجهاً جديداً على العالم، فقد سبق له أن تولى الحكم ما بين عامَي 2016 - 2020، لكن إثارته للجدل في ولايته الثانية تبدو أعلى في الدرجة، وأكثر حدة، خاصة على الصعيد الخارجي، ولأن أميركا عرفته من قبل، كرجل حاد يقاتل حتى لو اختلف مع كل الدنيا، وقد ظهر ذلك جلياً حين رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات العام 2020، وحاد عن التقليد الأميركي في التسليم السلس للسلطة، بل حرّض أنصاره على اقتحام الكابيتول، لمنع إعلان بايدن رئيساً بشكل رسمي، أي أن مؤسسات الدولة الأميركية تعرفه جيداً، ورغم ذلك دفعت به للعودة إلى البيت الأبيض، وتولي زمام إدارة الدولة مجدداً، وكل ذلك بهدف الحفاظ على مكانة أميركا كقائد وحيد للنظام العالمي، بعدما جربت ذلك عبر مسار مختلف قاده الحزب الديمقراطي بقيادة جو بايدن.
إثارة الجدل التي رافقت دخول ترامب للبيت الأبيض، بناء على تصريحاته الغريبة التي أطلقها في كل الاتجاهات، سرعان ما تحولت إلى جدل عالمي ترافق مع تصدع داخلي بدأ يظهر على طاقم ترامب الإداري، بدأ ذلك بالحديث عن إقالة مسؤول ملف المختطفين في إدارة ترامب آدم بولر لأنه التقى بعضاً من قادة «حماس» في الدوحة من وراء ظهر إسرائيل، وذلك للبحث في ملف صفقة التبادل، ما دل على أن إدارة ترامب بدأت تقتنع بأن نتنياهو يعطل عن قصد التوصل لحل من شأنه أن يوقف الحرب مع «حماس»، ثم تلاه ما أحدثته تعرفة ترامب الجمركية من ردود أفعال، بما في ذلك داخل أميركا، خصوصاً بين حليف ترامب المهم جداً، والذي كان من أكبر داعميه الانتخابيين، والذي اعتمد عليه كمسؤول من خارج الإدارة الرسمية، لتنفيذ سياسته الهادفة لكبح جماح الهدر المالي الفيدرالي، نقصد إيلون ماسك، وبين بيتر نافارو مستشار الرئيس التجاري، الذي يقال إنه هو من اقترح على الرئيس فكرة التعرفة الجمركية ومجمل السياسة الحمائية التي تهز العالم حالياً، لدرجة أن البعض وصفها بالقنبلة النووية الاقتصادية، يعني أن صدعاً داخل إدارة ترامب بدأ يظهر مبكراً.
قد يكون دافع ماسك، الذي ظهر قبل أسابيع وهو يداعب طفله داخل المكتب البيضاوي، كما لو كان صاحب البيت، أو كما لو كان الوريث الأوفر حظاً لترامب في سدة الإدارة، حين هاجم مستشار ترامب المسؤول عن تلك السياسة الاقتصادية، هو ما خسره الرجل خلال أيام معدودة من مليارات يقال إنها وصلت إلى نحو ثلث ما يملك أغنى رجل في العالم، والتي تجلت في تراجع مبيعات سيارات «تيسلا» التي يملكها إلى 40% بسبب تعرفة ترامب الجمركية، لكن أياً يكن الدافع، فإن معارضة سياسة ترامب الحمائية لا تقتصر على التظاهرات التي اندلعت فوراً في مدن أميركا، لكن أن تشمل الأثرياء الأميركيين فهذا يعني أنه بات من يعارضون تلك السياسة أكثر ممن يؤيدونها، وهكذا فإن الوقت سيكشف إن كانت إدارة ترامب ستجد نفسها في عزلة سياسية داخلية وخارجية على حد سواء، بما يفرض تحولاً قسرياً لدفة الإدارة، أو على الأقل تحويلاً لوجهتها، هذا إضافة بالطبع إلى التغيير الدراماتيكي لسياسة أميركا في أوكرانيا أولاً وتجاه سياسة نتنياهو في الشرق الأوسط ثانياً.
أهمية تأثير الخلاف بين ماسك وإدارة ترامب، أو أهمية معارضة ماسك لسياسة ترامب الحمائية، لا يمكن الاستخفاف بها، حتى لو كان دافع الرجل شخصياً له علاقة بما خسرته شركاته جراء تلك السياسة، ذلك أن ما أحدثته تلك السياسة من حرب اقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، أي بين الاقتصاد الأميركي والاقتصاد الصيني، ذات دلالة بالغة، لأنها تحدث في ظل العولمة التي رفعت من شأن أميركا لتقود العالم منفردة منذ انهيار جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، والاقتصاد الصيني لا تكمن أهميته في كونه الاقتصاد الثاني من حيث حجم الإنتاج المحلي الذي يقترب من 20 تريليون دولار مقابل نحو 30 تريليون دولار أميركي، لكن لكونه قد ظهر في ظل العولمة، وخلال النظام العالمي الأميركي الجديد أحادي القطب، وليس كما حدث مع الاقتصاد الياباني، والألماني والكوري الجنوبي، والتي تحققت خلال الحرب الباردة، والفارق هو أن الاقتصاد الصيني بالتحديد يظهر الحجم الكبير للتداخل الاقتصادي بين الشركات عابرة الجنسية، حيث تقوم الكثير من الشركات الأميركية ومنها تيسلا بإنتاج سلعها على الأرض الصينية، بسبب رخص الأيدي العاملة في الصين عنها في أميركا.
في هذا السياق، تشير التقارير إلى أن أكثر من 60 ألف مستثمر عالمي يستثمرون أموالهم في الصين، وإلى أن الصين توفر نحو 1،2 مليون وظيفة أميركية، وأن الشركات الصينية متعددة الجنسيات توظف ما يقارب من 200 ألف أميركي، وأن الشركات الأميركية استثمرت 126،91 مليار دولار في الصين العام 2023. وكل ذلك كان نتيجة سياسة الصين التي أنفقت 679 مليار دولار على مشاريع البنية التحتية العالمية مقابل 76 مليار فقط أنفقتها أميركا على المشاريع المماثلة.
ولعل ما يمكن وصفه بالتكامل الاقتصادي العالمي، يعتبر عقبة كأداء على طريق سياسة ترامب الحمائية، وبالتوقف قليلاً أمام العجز في ميزان التبادل التجاري بين أميركا ومعظم دول العالم، الذي كان سبباً في دافع ترامب لاتخاذ قرار فرض التعرفة الجمركية من جانب واحد على الدول المصدرة للسلع التي يستهلكها المواطن الأميركي، حيث قوة أميركا مع نحو 90 ألف دولار متوسط دخل الفرد السنوي، الشرائية مرتفعة، يلاحظ أن السبب يعود لاستيراد أميركا معظم السلع الخدمية من تلك الدول، فهي على سبيل المثال تستورد الملابس من بنغلاديش، والأحذية من فيتنام، فيما بلغ الاستيراد الأميركي من كندا والمكسيك ما يقارب من 900 مليار دولار عبارة عن آلات ومعدات ووقود معدني، فيما واردات أميركا من الصين تزيد على 600 مليار وهي عبارة عن سلع مختلفة مثل الإلكترونيات الاستهلاكية والملابس والأجهزة المنزلية، أما أميركا التي تستورد من الخارج معظم السلع فإنها باتت منذ ما بعد الحرب الباردة تعتمد على تصدير التكنولوجيا الحديثة والبرمجيات، لذلك فقد توجه بايدن لسد العجز في ميزان التبادل التجاري مع الخارج إلى بيع الأسلحة، فدفع بالحرب بين أوكرانيا وروسيا، ولذلك يطالب ترامب أوكرانيا اليوم بنحو 300 مليار دولار كانت عبارة عن أسلحة وذخائر ومساعدات عسكرية.
كذلك تحول الاقتصاد الأميركي إلى اقتصاد كسول، باعتماده على «وظيفة شرطي وقائد العالم» بالحصول على المليارات من خلال مكانة أميركا كدولة تقود العالم، فمن خلال اعتماد العملة الأميركية «الدولار»، تتحكم واشنطن بجهاز السيطرة، بحيث تراقب تحويل الأموال، وهكذا فرضت قيوداً على التحويلات المالية لأعدائها، فيما تدخل الخزانة الأميركية عمولة 1،5% على تحويلات بنكية عالمية سنوية تبلغ 160 تريليون دولار، فقط لمجرد أن التحويلات بين دول العالم تعتمد الدولار كعملة وسيطة أو متداولة، وتجري عبر نظام SWIFT الأميركي.
والحقيقة هي أن خطر الذهاب بعيداً في سياسة تستند إلى نظرية التفوق العرقي لا يقتصر على المعارضة الداخلية، لأن تلك السياسة تحتاج لقوة يمينية متطرفة لتنفيذها، على حساب القطاعات العلمانية والليبرالية من المجتمع، وعلى حساب مؤسسات الدولة، ما يعني التحول بالدولة نفسها لتغدو دولة فاشية، ولعل ظهور طاقم إدارة ترامب بتصريحاتهم في كافة الاتجاهات تدل على ذلك، رغم مرور فقط أقل من 90 يوماً على إدارة ترامب الثانية، ما أحدث افتراقاً بين بين أميركا من جهة ومعظم دول العالم من جهة ثانية، صحيح أن المعارضة العالمية لترامب ذات طبيعة اقتصادية، لكن قد يكون الطابع الاقتصادي بات هو شكل الصراع في زمن ما بعد الحرب الباردة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن ذلك الصراع الاقتصادي قد ينقلب في لحظة إلى حرب عسكرية ساخنة، تحتوي خطر الإبادة للبشرية كلها، نظراً لما تمتلكه الدول العظمى الاقتصادية من قوة نووية.
وحيث أن الصدع في علاقات أميركا الخارجية لم يقتصر على الصين التي تعتبرها المنافس الأخطر على مكانتها الدولية، بل شمل حلفاء وشركاء أميركا التقليديين التاريخيين، سواء كانوا دول الجوار، كندا والمكسيك، أو الأوروبيين من ألمان وفرنسيين، إلى إنجليز أيضاً، فإن ذلك يؤكد أن البشرية تقترب من مفترق طرق عالمي بين حقبتين، أو بين نظاميين عالمين، نظام في طريقه إلى الأفول، رغم المحاولة الأميركية لمنعه بالقوة خلال ولاية بايدن، أو باستخدام الجبروت الاقتصادي حالياً، ونظام عالمي بات معظم العالم له مصلحة فيه.