- صفارات الإنذار تدوي في عكا وحيفا وبمستوطنات بالضفة
في الثامن والعشرين من نيسان/ابريل عام2004، نشرت شبكة تلفزيون CBS الأمريكية صوراً لجنود أمريكيين وهم يتلذذون بتعذيب أسرى عراقيين ويستمتعون بآلامهم وهم في أوضاع فاضحة وصادمة داخل سجن "أبو غريب" غرب العاصمة العراقية بغداد، ويلتقطون بجانبهم الصور التذكارية والأسرى بهذه الحالة الشاذة، ويلوحون بإشارات "النصر" وكأنهم يمارسون عملاً بطولياً استثنائيا.
وتعقيباً على ذلك نشرت لي "الصحف والمواقع الالكترونية" في ذات الفترة مقالة بعنوان: الاحتلال واحد في العراق وفلسطين، قلت فيها: "أنه لحسن حظ الأسرى العراقيين أن صور تعذيبهم قد تسربت إلى خارج السجن، فأحدثت الضجة واستشاط العالم غضباً، وعبّرت المؤسسات الحقوقية والإنسانية، بأشد العبارات عن شجبها واستنكارها وإدانتها لما حدث. ولولا تلك الصور، لما سمعنا من يُدين ويستنكر. أما أسرانا في سجون الاحتلال الإسرائيلي فلم نجد من يلتقط صوراً لهم وهم في أوضاع مشابهة، أو في أقبية التحقيق والموت يلاحقهم، فينشرها، أملا بأن تُحدث ذات المفعول وتدفع المؤسسات الدولية لاتخاذ مواقف جادة وخطوات عملية لوقف التعذيب، القاسي والمميت، المشرّع قانونا في غرف التحقيق وأروقة السجون الإسرائيلية.
ان ما رأيناه من صور لأسرى عراقيين في "سجن أبو غريب"، حدث مثلها، بل وأبشع منها في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وقد يُخيل للبعض أن وصفنا هذا مبالغ فيه، وربما كان سبب ذلك غياب الصورة واقتصار دلائل الإثبات على الروايات والشهادات، التي تقدمها الضحايا، في ظل إصرار دولة الاحتلال على أن تُبقي أبواب سجونها مغلقة أمام وسائل الاعلام والمنظمات الدولية وممثلي مؤسسات حقوق الإنسان".
لقد عشت تجارب مريرة، واستمعت لشهادات أليمة روت بشاعة التعذيب، وقرأت تجارب لا يمكن تصورها أو مجرد تخيل حدوثها، تلك التي وثقتها ألسن النساء والفتيات والأطفال والشيوخ والجرحى والمصابين الذين مرّوا على السجون الإسرائيلية، وامتلكوا جرأة الحديث عما تعرضوا له، فانفجروا في البكاء وهم يصفون ما تعرضوا له خلال فترات اعتقالهم، وكان حديثهم يفيض بالألم والمرارة عن حجم معاناتهم.
ولعل الصور المؤلمة التي تسربت قبل أيام للأسير الفلسطيني/ وليد محمد حناتشة (51 عاما) وآثار التعذيب القاسي على جسده، هي غيض من فيض، حيث أنها تُظهر جزءا بسيطاً من بشاعة ما مُورس بحق الأسير "حناتشة" ومن قبله "سامر عرابيد" ورفاقهم في الجبهة الشعبية الذين اعتقلوا خلال الشهور القليلة الماضية، وما يُمارس من تعذيب بحق آخرين كُثر من الأسرى والأسيرات، فتلك الصور التي تسربت وأبشع منها ما زالت مطبوعة على أجسادنا وفي مخيلتنا، ولقد رأيناها أيضاً على أجساد آلاف غيرنا، وما زلنا نشاهدها ونسمع عن تكرار حدوثها مع آخرين كُثر في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
إن تأملا متمعنا في ممارسات محققي جهاز المخابرات الإسرائيلي (الشاباك)، يجعلك توشك أن تظن بأنهم ليسوا بشراً، لأن هذا الحجم الهائل من القسوة، التي تظهر على وجوههم، وحين يستمتعون ويتضاحكون وهم يراقبون عذابات ضحاياهم ويسمعون صرخات وجعهم وألمهم، ويتباهون بذلك فيما بينهم، يجعلك تعتقد ذلك.
ان الصور المُسربة للأسير "وليد حناتشة"، أعادت لأذهان الكثيرين من الفلسطينيين العديد من وقائع ما حدث معهم وما تعرضوا له من تعذيب خلال فترات سجنهم، ودفعتنا لأن نستحضر أسماء وسير ثلاثة وسبعين اسيرا فلسطينياً استشهدوا في أقبية التحقيق، منذ العام 1967. بالإضافة الى عشرات آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن متأثرين بما تعرضوا له من تعذيب خلال فترة اعتقالهم، ويُضاف إليهم أيضاً إصابة عدد كبير لم يتم إحصاؤهم من الأسرى الذين خرجوا من السجون والمعتقلات بعاهات مستديمة.
لذا آمل أن تستحوذ تلك الصور على ما تستحقه من اهتمام حقوقي وقانوني واعلامي، بل ويُفترض العمل لأجل لذلك لأنها لا تخص الأسير "وليد" فقط، وانما هي قضية عامة تخص كل من مرّ على السجون الإسرائيلية وتعرض للتعذيب، وكل من تعرض للاعتقال مُورس بحقه شكل أو أكثر من اشكال التعذيب الجسدي أو النفسي، فما من فلسطيني، من بين قرابة مليون مواطن مَروا بتجربة الاعتقال، إلا وقد ذاق مرارة التعذيب، الجسدي أو النفسي، فلقد أضحى التعذيب نهجاً أساسياً وممارسةً مؤسسيةً و جزءاً ثابتاً في المعاملة اليومية للمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال في إطار سياسة رسمية. فلا تقل لي أني اعتقلت في سجون الاحتلال الاسرائيلي ولم أُعَذَب، أو أني عُذبت وقد فارقتني آثار التعذيب وصوره دون رجعة، فالتعذيب ألم، لا ينتهي بفعل الزمن.
ويظل "التعذيب" في سجون الاحتلال يُشكل انتهاكا خطيراً لحقوق الإنسان، وجرماً فظيعاً بحق الإنسانية، وأن استمراره يُعتبر وصمة عار على جبين الحضارة العصرية والديمقراطية المنشودة والسلام المأمول، وان استمرار الصمت الدولي تجاه جرائم التعذيب بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وغياب المسائلة والمحاسبة والعدالة الدولية شجع أركان النظام في دولة الاحتلال على التمادي في ارتكاب المزيد من جرائم التعذيب بحق هؤلاء، مما يعرض حياة الكثيرين منهم لخطر الموت أو الاصابة بالإعاقة الجسدية و النفسية أو الحسية، ثمناً لغياب "العدالة الدولية".