تشهد العديد من القرارات والسياسات التي أصدرتها إدارة الرئيس دونالد ترامب الثانية على مدار الأيام المائة السابقة، بخصوص علاقات الولايات المتحدة على الصعيد الخارجي، على وجود توجه لدى الإدارة الأميركية الحالية لإرساء معادلات جديدة في إطار مكانتها في منظومة العلاقات الدولية القائمة. يعد ذلك تحولاً مهماً في سياسة الولايات المتحدة التي أرست قواعدها بعد انتهاء الحرب الباردة، عندما أسست لعهد جديد يتناسب مع مكانتها كقطب أوحد في المنظومة الدولية. ورغم أن التحولات الدولية في النظام الدولي ليس بالأمر الجديد، فقد جاءت باستطراد متراكم عبر السنوات الماضية، باتجاه صعود قوى منافسة للولايات المتحدة كقطب وحيد، حيث بدأت الولايات المتحدة تعتبر الصين المنافس الأهم للولايات المتحدة منذ عقد من الزمان، وقد اعتبرت أن ذلك ينطبق على روسيا، وإن كان بدرجة أقل. عملت الإدارات السابقة على مواجهة تلك التبدلات الدولية في النظام الدولي، من خلال عدة استراتيجيات باتجاه الاحتفاظ بمكانتها الدولية كقطب أوحد، إلا أن إدارة ترامب الحالية قررت التخلي عن تلك الاستراتيجيات السابقة والتعامل باستراتيجيات جديدة، قد تخسر فيها عوامل قوتها، لصالح ترسيخ وتسريع النظام الدولي الجديد الناشئ.
بعد انتهاء الحرب الباردة، أرست الولايات المتحدة نظاما يتناسب مع قوتها المطلقة، ويقوم على أساس المعايير الشكلية للنظرية الليبرالية، القائمة على المعاهدات والاقتصاد الحر وتفعيل دور المنظمات الدولية، مع احتفاظها أيضاً بالقوة المطلقة، التي كانت مفهومة ضمنياً. وانخرطت دول العالم في تلك المنظومة الدولية المحكومة بالمعايير الأميركية، بما في ذلك الصين وروسيا، التي انخرطت بها، وأصبحت جزءاً منها. وشكلت الدول الغربية، الممثلة بالدول الأوروبية، سواء من خلال الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، الحليف والداعم والسند للتوجه والسياسة الأميركية، وساعدت بإمكانياتها الجماعية الهائلة على إرسائها، مقابل علاقات مميزة بين الطرفين على الصعيد الاقتصادي والسياسي والحماية العسكرية. قبل عقد تقريباً، بات العالم لا يستطيع أن ينكر ذلك الصعود الصيني المنافس للولايات المتحدة، وبدأت الولايات المتحدة تعتبره في وثائقها الاستراتيجية المنافس الأخطر على المصالح الأميركية، وإدراج روسيا أيضاً في تلك الخانة بدرجة أدنى خطورة. وقد ضغطت الولايات المتحدة على دول الاتحاد الأوروبي لإدراج الصين وروسيا بوصف مشابه في وثائقها الاستراتيجية، وإن جاء ذلك بصيغة مخففة عن الولايات المتحدة، رغم العلاقات الاقتصادية المميزة بتصاعد بين أوروبا وكل من الصين وروسيا.
جاء عهد ترامب الحالي، وخلال المائة يوم الأولى منها لإرساء سياسة تحمل انقلاباً على السياسات والمعادلات القائمة، وقد يؤدي ذلك لتسريع عملية التحول في النظام الدولي الحالي، والذي عملت الإدارات السابقة على مواجهته وتأخير حدوثه. فكانت الاستراتيجية الأميركية السابقة، القائمة على تحدي ومواجهة نفوذ الأعداء تقوم من خلال دعم الحلفاء خصوصاً على المستوى العسكري، وكان ذلك متجسداً في حلف الناتو، الذي واجه روسيا خلال الحرب في أوكرانيا، وتشكيل تحالفات أمنية في الشرق الأوسط وآسيا، بتوجيه من الولايات المتحدة لمواجهة أعدائها، وفي آسيا لمواجهة عدوها اللدود الصيني. في حين تقوم استراتيجية ترامب اليوم على سحب دعمها لحلفائها، الذين يساعدونها في التصدي لتصاعد نفوذ منافسيها. فهددت الولايات المتحدة بالانسحاب من حلف الناتو، وأعلنت عن عدم نيتها استكمال دعمها المالي والعسكري للحلف، ويواجه حلفاؤها في آسيا الذين اعتمدوا عليها في سياستهم الدفاعية كما في اليابان وكوريا الجنوبية معضلات كبيرة في ظل تلك التطورات.
وامتدت سياسات ترامب أيضاً لفرض سياسة حمائية لاقتصاد الولايات المتحدة، والتي تجسدت بفرض التعريفات الجمركية المثيرة للجدل، على حساب أقرب المقربين اليها من حلفائها، على رأسهم الدول الأوروبية وكندا، بالإضافة لأعدائها، على رأسهم الصين. وقد شكل ذلك مفاجأة للحلفاء، الذي قرروا أن يعاملوا الولايات المتحدة بالمثل، وفرض تعريفات جمركية مقابلة عليها، في حين قبلت الصين التحدي، وقررت الصمود أمام حرب الولايات الاقتصادية عليها. لم يرد حلفاء الولايات المتحدة على السياسة الاقتصادية الأميركية العقابية تجاههم برد فعل مشابه فقط، بل بدأت تلك الدول بالبحث في امكانية توسيع شراكاتها الاقتصادية مع الصين. كما اتخذت اليابان وكوريا الجنوبية سياسات مشابهة لنظرائهم الأوروبيين، في سياسات تبحث عن شراكات مع الصين. وتوجهت كندا كذلك لتوطيد علاقاتها الاقتصادية مع دول أوروبا، لتسد الثغرة التي خلقتها الولايات المتحدة.
ورغم تراجع ترامب، أو تأخير تنفيذ قراراته المتعلقة بالتعريفات الجمركية، لمواجهة الزلزال الاقتصادي الذي أنتجته سياساته وقراراته الأخيرة، إلا أن الثقة بالولايات المتحدة قد اهتزت، خصوصاً بين الحلفاء، كما بات أعداء الولايات المتحدة، وخصوصاً الصين، أكثر وعياً وحرصاً وقدرة على مواجهة مثل تلك السياسات الأميركية المتخبطة. كما كشفت سياسة ترامب القناع الذي أخفى وجه الولايات المتحدة الحقيقي الذي توارى خلف المبادئ الليبرالية التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات. انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، ويهدد بإجراءات مشابهة أخرى. وانتقدت إدارته منظمة الأمم المتحدة، لمواقفها الجماعية والقانونية المنتقدة لما يقترفه الاحتلال بحق الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في جرائم ارتكبها قادة ذلك الاحتلال بحق الفلسطينيين. ويطالب ترامب الاتحاد الأوروبي برفع القواعد التنظيمية عن الشركات الأميركية، وذلك لصالح الشركات الأميركية الكبرى، وفي مجالات عديدة، وهي القواعد التي تضعها أوروبا كي تضمن مستوى مميزا لتقديم الخدمات، وهي معايير تلتزم بها معظم الشركات التي تطمح لتقديم مستوى راق من الخدمات لصالح البشرية. إن هذه المواقف التي يتبناها ترامب اليوم، بالإضافة إلى تاريخ يمتد لأكثر من ثلاثة عقود، تثبت أن الولايات المتحدة، قد تبنت شكلياً المبادئ الليبرالية، القائمة على التفاهمات الدولية عبر توقيع المعاهدات، ومقاربة الأمن الجماعي لتحقيق العدالة، والتجارة والسوق الحر، كلها سياسات جاءت لترسيخ مكانة الولايات المتحدة في حقبة زمنية معينة لصالح ترسيخ مكانتها الدولية في تلك الفترة.
وواقع الحال اليوم أن الولايات المتحدة لم تعد رائدة لتلك المبادئ، ولم تعد أمينة على تنفيذها وحمايتها. كما أن الولايات المتحدة لم تعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأقوى دون وجود منافسين، في ظل هذا الصعود الكبير لدول عديدة في المنظومة الدولية. إن ذلك يفرض إجراء مراجعات مهمة لدى قوى العالم اليوم، فالولايات المتحدة لا تستطيع ضمن المعطيات الجديدة، والواقع المتغير، أن تفرض سياساتها على عالم بات يعي أهمية التعاون والتفاهم بين أطرافه، ودور الاتفاقيات والمنظمات الدولية لاحتواء الخلافات وخلق الشراكات البناءة لصالح البشرية.