د. أحمد يوسف
الكوفية:لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصان، هذه هي سُنّة الحياة، حيث حركيّة التداول بين الناس والتنظيمات والأفكار، وحتى الرؤى في استراتيجيات الخلاص الوطني لا تبتعد كثيراً عن سياقات هذا الناموس الكوني. فمنذ انطلاقتها منتصف القرن الماضي، لم تعرف الحركة الوطنية الفلسطينية استقراراً سياسياً أو تنظيمياً طويل الأمد.. فبعد عقودٍ من تصدّر حركة فتح المشهد الفلسطيني، تحوّلت دفة القيادة إلى حركة حماس، في ما يشبه تغريبة سياسية ما تزال تُثير أسئلة مراجعة كبرى: لماذا فشلت حركة فتح (أم الجماهير) في الحفاظ على موقعها؟ وهل صعود حركة حماس (صقر القسَّام) كان خياراً شعبياً أم نتاج أزمة مشروع وطني؟
بدايةً يمكن الإشارة إلى أن حركة فتح؛ رمز الثورة وأيقونة النضال الفلسطيني،قد تأسست في نهاية خمسينيات القرن الماضي، ونجحت في قيادة منظمة التحرير الفلسطينيةمنذ أواخر الستينيات، متبنيةً نهج الكفاح المسلح، ثم الواقعية السياسية لاحقاً.
ولكن والحق يقال، إنَّ الحركة ومنذ اتفاق أوسلو (1993)، دخلت في متاهةٍ من الخلافات المعقدة، وولجت نفقاً سياسياً مُظلماً،
إذ التزمت بخيار التسوية دون ضمانات بتحقيق الحُلم بالدولة الفلسطينية
الموعودة!!
في المقابل، كان التورَّط في مؤسسات السلطة الفلسطينية،التي تشكّلت تحت الاحتلال، مع سياسة تهميش ممنهجة لمنظمة التحرير كمرجعية للكلِّ الفلسطيني،وهذا ما أفقدها -تدريجياً- زخم دورها النضالي كصاحبةِ ولايةٍ في مشروع التحرر الوطني من ناحية.
ومن ناحية ثانية، أخذت الاتهامات بالفساد والمحسوبية تطال السلطة وتطارد الكثير من قياداتها، مع تغييبٍ ملحوظٍ للتمثيل الديمقراطي، مما زعزع "طهارة" صورتها في الشارع، وعلى ألسنة النخبة بمختلف أيدولوجياتها وعناوينها الفصائلية.
كلُّ هذه العوامل والانطباعات السلبية، جعلت قطاعات واسعة من الفلسطينيين -لا سيما في قطاع غزة- تبحث عن بديل آخر، يُعيد للمقاومة روحها في النضال والثورة.
ومن الطبيعي في ظلِّ تلك المناخات من الخلاف والجدل،
وحالة العقم السياسي والاسترخاءالنضالي التي وصلت إليه السلطة، أن تتحرك الصفوف وتتمايز في مكاناتها.
في يناير ٢٠٠٦، جرت الانتخابات التشريعية، وحدث "تُسونامي" لم يتوقعه أحد، إذ فازت حركة حماس بالأغلبية البرلمانية الساحقة، وهو ما غيَّر المشهدية السياسية والنضالية، إذ خرجت حماس -بسجلها الجهادي الحافل- بكلِّ اندفاع وقوة،
متجاوزةً سقف ما كانت عليه من إنشغالات دعوية إلى الصدارة السياسية.
ومن الجدير ذكره هنا، أنَّ حماس كفصيلٍ مقاوم؛ خرجت من رحم حركة "الإخوان المسلمين" الواسعة الانتشار إقليمياً وعالمياً، مع حضور لا تخطئه العين، من حيث الشعبية والامتداد في الضفة الغربية وقطاع غزة.. وقد سبق للحركة عند انطلاقتها عام ١٩٨٧، أن أعلنت عن نفسها بأنها حركة تحرر وطني براية إسلامية، وقد نجحت في المزج بين الهوية الإسلامية والمشروع المقاوم.
وكما هو معروف، أنَّ الحركة رفضت اتفاق أوسلو، وواصلت العمل المسلح، وتموضعت كـ"خيار بديل" في أعين الكثيرين ممن اصطفوا على مسطرة النضال الفلسطيني.
وفي سياق المراجعة التاريخية لتطور آلية الصراع، يتوجب القول: إنه بعد الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠-٢٠٠٥)، استثمرت الحركة حضورها الشعبي في الانتخابات، وفوزها الكبير، الذي فاجأ الداخل والخارج، وأسهم في تكريس أول انتقال حقيقي للقيادة من فتح إلى حماس.
لكنَّ هذا الصعود -وكما هو معلوم- لم يكن ناعماً، فقد تفجّر الصراع مع فتح في غزة عام ٢٠٠٧، ليتحول الانقسام إلى تشظي جغرافي ومؤسساتي بين غزة والضفة، ولم يزل قائماً ومستمراً حتى اليوم.
وعليه؛ صار الشارع الفلسطيني يترنح بين خيبتين؛ فتح وحماس!!
فالتغريبة الفلسطينيةمن فتح إلى حماس لم تكن انتقالاً -طبيعياً وسلساً- من فصيل إلى آخر كما ظن البعض، بل كانت تعبيراً عن تحولات عميقة -مصحوبة بالجدل- في وعي الشارع الفلسطيني؛
من الحلم بالتحرير الكامل، إلى الرهان على دولة محدودة السيادة،
ومن قيادة قومية بخطاب علماني، إلى قيادة مقاومة ذات طابع إسلامي.
باختصار.. في رحلة التغريبة الفلسطينية من فتح إلى حماس، وقعت الكثير من
الأخطاء التي يتحمل مسؤوليتها كلا الطرفين، والتي سنشير إلى بعضٍ منها في سياق العرض وليس من باب التفصيل، كالآتي:
أولاً) غياب التفاهم والاتفاق على كيفية التعامل مع ما تمخضت عنه اتفاقية أوسلو، والتعاطي مع الاتفاق كمشروع أمني خياني، فيما كان بالإمكان الاستثمار في بعض نتائجه في سياق المصلحة الوطنية العليا.
ثانياً) الإخفاق في التوافق على شراكة وطنية تحقن الدماء، وتحفظ وحدة الشمل الفلسطيني.
ثالثاً) الإخفاق في الاجتماع على رؤية وطنية بين الكلِّ الفلسطيني، وتعظيم كلّ فصيل لرؤيته وأيدولوجيته الوطنية والدينية.
رابعاً) تناقض التوجهات في عملية الاصطفاف مع العمق العربي والإسلامي.
خامساً)
أدلجة الانقسام والتشظي وتأبيده، رغم كلّ لقاءات المصالحة التي رعتها جهات فلسطينية وعربية وإسلامية ودولية.
ختاماً:
إن أخطاء فتح وحماس ليست مجرد عثرات في الطريق، بل محطات مفصلية ساهمت في إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني.والمراجعة اليوم -وبعد كلّ ما وقع من كوارث ونكبات- لا تعني المحاسبة فقط، بل هي الشرط الأول لبناء مستقبل سياسي جديد، قائمٌ على الشراكة الوطنية والتداول السلمي للسلطة، عبر الشرعية الانتخابية، التي تُعيد الاعتبار للحرية والكرامة الإنسانية، ولجموع الفلسطينيين من نازحين ومرابطين، الذين ما زالوا يؤمنون بوطن يستحق أن يولد من جديد.