كيف الأولاد؟ ما عاد حدا منيح، والوضع مختلف بصورة دراماتيكية. لا أحد يستطيع النجاة، والأمور تزداد تعقيداً". بهذه الكلمات افتتح أحد الأصدقاء صباحه، في حوار يعكس عمق الألم والمعاناة التي يعيشها الناس في قطاع غزة. الواقع المأساوي يضغط بثقله على كل تفاصيل الحياة، والجوع بات ينهش أجساداً أنهكها الحصار والدمار، حتى أن جارةً لنا لجأت إلى طحن العدس وخبزه لإطعام أولادها بعد نفاد الدقيق، إذ لم يتبق للناس سوى الخبز كوجبة أساسية في ظل المجاعة المتفشية.
ومع دخول حرب الابادة الشهر التاسع عشر، لا تزال مشاهد الدمار والقتل والنزوح هي العنوان اليومي لحياة الفلسطينيين في القطاع. والقصف الحوي الاسرائيلي لا يتوقف، والمدفعية لا تهدأ، والقتل مستمر بوتيرة بطيئة ولكن منهجية، تحت عنوان عملية "عربات جدعون"، التي تحصد يومياً أرواح نحو خمسين شهيداً.
وفي الأسبوع الماضي، ارتكبت القوات الإسرائيلية مجزرة بحق عائلة الطبيبة آلاء النجار، التي استشهد أطفالها التسعة في شرق خان يونس، بينما تواصل آلة التدمير الإسرائيلية عملها في مناطق عدة من القطاع: من بني سهيلا وعبسان، إلى دير البلح والزيتون والشجاعية وبيت لاهيا وجباليا، حيث الدمار يزحف بصمت مخيف.
وسط هذه المأساة، عاد الحديث مجدداً عن جهود التهدئة. بعد أيام قليلة من الهدوء الاعلامي، تصاعدت التكهنات حول اقتراب التوصل إلى صفقة جديدة بين إسرائيل وحماس. الرئيس الأميركي دونالد ترامب صرّح أمس الاثنين عن "انفراجة وشيكة" وقال: "تحدثنا مع إسرائيل ونريد إنهاء هذا الوضع بأسرع وقت ممكن"، في إشارة إلى جهود لإيقاف الحرب.
رغم تراجع نتنياهو لاحقاً عن تفاؤله، فإن بعض المحللين الإسرائيليين يرون في موقفه الغامض مؤشراً على وجود فرصة حقيقية لإحداث تحول إيجابي، خاصة مع ضغط أميركي بدأ يتصاعد في الآونة الأخيرة.
ووفق تسريبات، يجري النقاش حالياً حول اتفاق من مرحلتين، تسعى الإدارة الأميركية من خلاله إلى وقف الحرب، بإطلاق سراح نصف المختطفين الإسرائيليين مقابل وقف إطلاق نار تدريجي. وقد طالبت حماس بضمانات أميركية حقيقية، عبر المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، لضمان تنفيذ الاتفاق.
إلى جانب ذلك، تشير تقارير اسرائيلية إلى أن ترامب مارس ضغوطاً على نتنياهو للسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى غزة، بعد أكثر من 80 يوماً من الحصار الخانق، وهو ما فتح الباب أمام إمكانية دفع صفقة الأسرى للأمام.
وبحسب مصادر أميركية، تتضمن الخطة إعادة 10 أسرى أحياء خلال 60 إلى 70 يوماً من وقف إطلاق النار، إلى جانب اعادة بعض جثث الجنود الإسرائيليين، بالتوازي مع تعهدات أميركية لحماس، ومصافحة رمزية بين ويتكوف وخليل الحية في الدوحة.
لكن رغم التصريحات المتفائلة، ما تزال الفجوات كبيرة بين الأطراف. تسريبات متضاربة صدرت طوال يوم أمس من واشنطن وتل أبيب والدوحة، بينما حاول نتنياهو، كعادته، المناورة بين ضغوط ترامب وشروط ومتطلبات تحالفه الحكومي اليميني المتطرف، الذي يعارض بشدة أي تهدئة أو تنازل لحماس.
وفي ظل هذا التعقيد، يبدو أن ترامب لم ينجح بعد في فرض ضغط كافٍ على نتنياهو. رئيس الحكومة الإسرائيلية، الذي يحاول كسب الوقت حتى نهاية الدورة الصيفية للكنيست، يسعى بكل ما أوتي من قوة ومناورة لتأجيل أي اتفاق، وقد لا تُعقد انتخابات جديدة قبل عام 2026، مما يمنحه هامشاً واسعاً للاستمرار في هذه اللعبة السياسية الدامية.
وفي الوقت الذي تمضي فيه التحليلات والتكهنات، يبقى الناس في قطاع غزة في مواجهة معادلة الحياة والموت اليومي، معلقين بين وعود التهدئة واستمرار الابادة الجماعية، دون أن تلوح في الأفق فرص حقيقية لنهاية قريبة لموتهم ومعاناتهم.