- مسيّرات "إسرائيلية" من نوع "كواد كابتر" تطلق النار تجاه منازل المواطنين في حي التفاح شرق مدينة غزة
الكتابة عن شيء آخر خارج غزة يمثل خذلاناً لأهلها، لأن طوفاناً من الوجع يجرفنا وأهلها منذ تسعة عشر شهراً، فلا صخب للأحداث خارج غزة، ولا حدث إلا ما تصنعه أو يصنعها كحالة تنكيل مستمرة تقدم نموذجاً فاق في وحشيته كل ما كتبه التاريخ وهو يسرد مآسيه وفظائعه، هذا العنوان تكرر في مقال سابق وهذا مخالف لأصول الكتابة، ولكن واقع غزة ومجاعتها تفترض استمرار الصراخ بكل الأقلام والضمائر «هناك مجاعة» ألف مرة لأن الإسرائيلي يمعن متلذذاً بهذا الشكل من التعذيب.
في القرن الحادي والعشرين عصر التكنولوجيا والقيم الإنسانية وهو ليس كذلك بالنسبة للغزيين، بل عصر السقوط المدوي للأخلاق والنظم، في هذا القرن تقوم دولة مسجلة في الأمم المتحدة وموقعة على مواثيقها بمنع الغذاء والماء والدواء عن مجموعة سكانية مدنية، وتستخدم التجويع سلاحاً كعقاب لهؤلاء المدنيين ضد النظام السياسي الحاكم ....!
يتبارى مسؤولو الحكومة الداعشية في إسرائيل بالتهديد بفرط الحكومة إذا ما دخلت حبة قمح واحدة لغزة لتغرق في مجاعة تكفي فيها نظرة من عينَي طفل بات هيكلاً عظمياً لإشعال الأرض قهراً وحزناً.
فأي عالم هذا؟ لقد نفد كل شيء في غزة، وشارك الناس الحيوانات في علفها، وأكلوا كل شيء.. السلاحف والقنافذ وحشائش الأرض التي لا تؤكل، ولكن كل هذا نفد ولم يبق سوى وجع الجوع الذي يفوق كل الأوجاع، فالأسرى الذين أضربوا عن الطعام يعرفون حجم الوجع.
ما يحدث بغزة لم يتوقف على كارثة الجوع، بل بات الموت مصحوباً بالخوف من الرحيل والهروب والإصابة والنزف بلا منقذ، أو أن يبقى يئن تحت الركام من ضربة مفاجئة، أي أن الأشباح تطارد الغزيين من كل الزوايا، تأتي المجاعة لتكلل كل هذا بالموت البطيء ولتكلل البشرية ومرة أخرى عالمها الحضاري وأمتيها الإسلامية والعربية، الإسلامية التي تعرف متى تصمت وتعرف أكثر متى تتحدث حين تتوافق مع الممول فقط. سقط كل الدعاة الذين شكلوا طوفاناً من الفتاوى الفاسدة والمبتذلة والمحرجة على امتداد عقود مضت، وتلك ربما الفائدة الوحيدة من موت غزة نهاية عصر المشايخ ورجال الدين.
المشاهد التي تنقل من غزة تدمي القلب المكسور حزناً على هؤلاء الذين شاء قدر الجغرافيا أن يضعهم حقل تجارب للتاريخ، عندما يختل عقله أو يتعرض ضميره للرشوة، أو حين يتواطأ مع هذا العالم القوي على الضعفاء لا تكون سوى تلك الصور الكئيبة لأطفال حفاة في مشهد فوضوي، حاملين الأواني يتزاحمون على نقطة توزيع غذاء «تكية» يعود معظمهم بلا شيء حاملاً قهره الذي لا ينتهي كشريك دائم في الخيمة، فالقهر والخيمة توأمان يرافقان الفلسطيني منذ نكبته الأولى .... والدمع أيضاً.
ماذا سيفعل الناس في غزة؟ لم يتبق شيء يأكلونه، الناس يسيرون في الشوارع هائمين يلسعهم الخوف من كل شيء؛ من المرض ومن الجوع ومن القذائف ومن البيوت الآيلة للسقوط ومن المستقبل الذي لم يعد يحمل أية نافذة أمل، ولم تعد الأقدام قادرة على حمل الأجساد الذابلة، ولم تعد الروح التي أصيبت بانكسار لا شفاء منه قادرة على الاستمرار وهي تجر نفسها كسيحة على دروب الموت المؤجل والمعجل.
من بقى ليناشده الذين يتساقطون من وجع الجوع؟ عرب؟ فقد توقفت الطائرات التي كانت تلقي حمولاتها المتواضعة بخجل؟ إسلام؟ فقد ترك الإسلاميون غزة لمصيرها بعد انكشافهم حين لم يملكوا سوى الدعاء الذي لم يكن أكثر من تعاويذ لا تضر ولا تنفع لتسكين الوجع، كما قال درويش مرةً في قصيدته الملحمية مخاطباً ياسر عرفات «ماذا تريد ...علماً؟ وماذا تنفع الاعلام؟ وهل حمت الأعلام المدينة من شظايا قنبلة؟ «فأي أفكار لا تستطيع الدفاع عن طفل بحاجة لمراجعات كبيرة.
لم يبق شيء في غزة، وقد انتهت كل حلول الأرض التي راهنت عليها لأكثر من عام ونصف في هذا المسلخ المفتوح للحم البشري المحروق بالقنابل، وبقهر تكاثر المتفرجين كالثعالب او كالطحالب أمام هذا المشهد الذي لم تهتز له البشرية بعد، ولن تهتز عندما يتعلق الأمر بالفلسطيني الزائد عن حاجة الكون هناك ما لا يمكن تفسيره.
وفي استمرار نهر الألم لا بد وأن نلتفت قليلاً للوراء، علنا نجد ما يمكن أن يساعدنا لوقف المقتلة التي يبدو إصرار حركة حماس على القتال «طبعاً لا قتال جدياً» وإصرارها على أن تكون الحاكم القوي في غزة «طبعا لا حكم في غزة» ما يدعو للتفكير بضرورة أن يبدأ الأمر من هنا، منذ النقطة التي دخل فيها الفلسطيني هذه المغامرة الكبرى، ولعل في تراجعها عن المشهد ما يسرّع في وقف هذا الدمار الذي حل بغزة لعقود قادمة. فإسرائيل تستخدمها وتستخدم حكمها وتستخدم وجود الأسرى كي تستكمل سحق غزة. هل تدرك الحركة ذلك؟