- قوات الاحتلال تقتحم مدينة بيت لحم
- قوات الاحتلال تقتحم بلدة بيت أمر شمال الخليل
يا له من سؤال مغوٍ؟ ماذا تعني لك القصة القصيرة؟ أحب هذا السؤال، أنتظره، وأحبني وأنا أفرح به، وأبحث دائما عن قصاصين عرب وغير عرب، تحدثوا عن علاقتهم مع القصة القصيرة، صحوت على أب يتأخر في النهوض من السرير، لم يكن أبي بالنائم، كان مستلقيا ومحاطا بالكتب المبعثرة ما بين حضنه وأطراف السرير، للجاحظ والمنفلوطي ومحمد وأحمد مندور، ويوسف إدريس، ومقامات الهمذاني، كل هذا المشهد أتذكره بوضوح سعيد، وأتذكر تذمر أمي من تأخر أبي في الاستلقاء، فلديها مهمة ترتيب الكتب والسرير وكنس الغرفة وغيرها، لكن الكتاب الذي كنت ألاحظ أنه يحظى بحضنه هو كتاب البخلاء للجاحظ، كان أبي يقرأ بصوت عالٍ لي، قصص الكتاب، وكان يضحك، كلما قرأ فقرة، ولم أكن أشعر بتفاعل مع ضحكاته، لأنني لم أكن أفهم شيئا، كل ما كان يهمني هو انتباه أبي لي في حمى غرقه في قصص جاحظ العينين.
كنت ابن عشرة أعوام، فارغا تماما من كل شيء سوى حضن أبي، المليء بالكتب، وغضب أمي، بدأت قصتي مع الكتابة من شرارة غيرتي، من الكتب التي تنافس حبي للوالد، كنت أحاول دوما الاندساس بين سطرين يقرؤهما أبي من كتاب، وكنت أفوز مرات وأخسر مرات أخرى، كان الجاحظ الساخر حين ينتصر يرمقني بسخرية وكأنه يقول: هو دوري الآن، اذهب بعيدا يا ولد، وحين كنت أفوز أنا كنت أركل الجاحظ بقدمي، صائحا به: اذهب بعيدا يا دميم الوجه، وكانت خسارتي حضن أبي ترتبط فورا بتأييدي لغضب أمي من أبي: نعم يا أبي هيا انهض فأمي تريد أن ترتب سريرك الفوضوي وكتبك البليدة، وحين كنت أفوز كنت أصيح بأمي: وماذا يعني لو تأخر أبي قليلا في النهوض، اذهبي يا أمي إلى غرف أخرى وأجّلي ترتيب هذه الغرفة، فأبي مشغول بالقراءة، وبي، وحين كانت أمي تلاحظ أني سعيد كانت تستجيب لطلبي وتذهب إلى غرفة أخرى، وهكذا بدأت أفكر: ما الذي يحبه أبي في هذه الكتب؟ ما هو السحر فيها؟ وبدأت أمسك كتاب الجاحظ تحديدا، أشمّه، فأشعر برائحة مختلفة.
من رائحة كتاب الجاحظ الذي استعاره أبي من مكتبة مدرسته قبل 40 عاما ولم يعده، ومن فضولي لمعرفة ما كان يشد انتباه أبي، دخلت عالم القراءة، وحين بدأ أبي يشعر بتجاوبي مع قصص الجاحظ، مع سنوات قادمة، صار يختار لي كلمة من جريدة ويطلب مني وضعها في جملة مفيدة، أتذكر كلمة يرجئ، يرجئ رئيس الوزراء زيارته لليمن بسبب حالة الطقس، طار أبي من جملة طفله المفيدة، طفله الذي لم يتجاوز الثلاثة عشر عاما، ومع طيران أبي فهمت معنى الاندهاش، ومعنى أن يطير الإنسان بسبب سحر في جملة، ومضت بي الأيام، كان صوت أبي وهو يقرأ لي قصص البخلاء، ما زال يرن في داخلي، صوته وضحكاته، واندهاشاته، ذهبت مباشرة إلى القصة القصيرة وكأنها كانت بانتظاري.
تخلل هذا الذهاب بضع قصائد تافهات، سرعان من هربتهن بخجل إلى سطح البيت، غطيتهن بأكياس طحين، لم أدرِ ما حدث لهن، أظن أنهن تبخرن أو احترقن تحت أشعة تموز الفلسطينية. فيما بعد، كتبت قصصا كثيرة، كان أبي أول الناقدين: اخرج من زياد، تخلّ عن الرنين، وأشح عن الزخرف، كن أنت. وكن الحقيقة والبسطاء، وإياك أن تصرخ كثيرا. العام 98 كان هناك موقع إلكتروني اسمه «دروب»، كنت أنام فيه، بالمعنى
الحقيقي، لا المجازي، تعرفت فيه على عديد من ساردي العالم العربي، كانت مشكلتنا الكبرى نحن أدباء فلسطين الشبان، عطشنا إلى الاحتكاك بالأدباء العرب، جاءت الشبكة العنكبوتية، لتحقق لنا ذلك، كان أنيس الرافعي المغربي الاسم الأبرز بين ساردي «دروب»، كان لطيفا جدا ومثقفا إلى أبعد الحدود وأهم من ذلك كنت متحمسا لفن القصة، كنت أقرأ قصصه وأقول لأبي أريد أن أصبح مثل أنيس، صار أنيس صديقي وصارت قصته القصيرة بشكلها المجنون الحر الصادم نموذجي، كنت أناديه بالمعلم، وأتخيل مشهد مناداة ماركيز الصغير لهمنغواي العظيم على رصيفيّ شارع في باريس: مرحبا أيها المعلم.
هذه دعوة إلى مزيد من الاهتمام بهذا النوع الأدبي المظلوم، القطة التي تتحول إلى نمرة أحياناً، كما وصفها أنيس تستحق فقط أن ندعها في حالها، وألا نسخر منها، ونتذمر من قصر نفسها، وانحيازها إلى الهامش في المدينة والقلب، بحاجة فقط لأن لا نعرقل روحها، حين تنهض وتنمو وتحكي وتصمت وتطير.
القصة حب صغير خائف ينمو في منعطف معتم من منعطفات المدينة، منعطف لا تمر منه عربات فارهة، ولا مطاعم قربه أو مقاهي. القصة سعلة أمّ مريضة، وشهقة مراهقة مترددة. برق في ليلة مستبدة، صورة يلتقطها مصور مصاب بانفصام قلب. ترفض القصة الأعباء، وتمقت الرسائل، وتركل الهم الوطني ركلاً، ليس لأنها ضد الوطن، أبدا بل لأنها ضد استخدام الوطن استخداماً وظيفياً، مباشراً وشعارياً.
القصة بنت صغيرة في الثانوية العامة، ذكية بعيون براقة، لكن، حزينة دوما، ويدين هشتين، تلك الهشاشة الذكية والناعمة. تحب بهمس، وتنتظر حبيبها الغامض بشفافية وهدوء.
تعطي القصة العالم أهم درس، وهو الكثافة، لو فهم هذا العالم الدرس، لامّحت الحروب، وهدأت الصراعات.
كيف نتجاهل قطة تفعل ذلك كله، وشكلها ذلك كله وروحها ذلك كله؟ احذروا غضب القطة، احذروا غضب القطة.