- طائرات الاحتلال تشن غارة عنيفة على وسط مدينة جباليا البلد شمال قطاع غزة
سيطر مشهد "الكورونا" على الساحة العالمية وبشكل يعادل إلى حدٍ ما سرعة إنتشاره، لكن هذه السرعة تفاوتت من دولة إلى أخرى لإعتبارات إقتصادية وسياسية وبحيث كان المشهد يُعبّر عن توجهات هذه الدول ونظرتها ورؤيتها لمصالحها وفق أولويات تُعيد إلى أذهاننا منطق وفلسفة التوجهات التي تحكم العقلية الحاكمة لهذه الدول بشكل عام وسيطرت مفهوم "الشركة" على النظام السياسي ككل في الكثير من دول الشمال المتقدمة صناعياً وعلمياً، في حين دول الجنوب الفقيرة كانت في البداية تُراقب قبل أن تتخذ خطواتها وكأنها تائهة ومرتعشة ولا حول ولا قوة لها بما جرى ويجري.
المشهد سيطرت عليه بالأساس عقليتان، الأولى صينية-شرقية بإمتياز، فمنذ اللحظة الأولى إكتشفت طبيعة التحدي الذي ظهر في "ووهان" وقررت بخطوات سريعة ومحسوبة أن تواجه هذه الحرب الجديدة بحزم وبلا رحمة لأنها قدّرت خطورتها ليس على الإنسان الصيني فحسب بل وعلى مُستقبل الدولة الصينية والعالم ككل، فوضعت سياسة العزل التام والوقاية وتسريع البحث العلمي لإكتشاف لقاح لمواجهة جيش "الكورونا"، وفتحت مستشفيات خاصة شيّدتها وجهزتها خلال عشرة أيام فقط كتعبير عن عظمة الصين كأمة وكعلم وكإمكانيات مادية ومهنية، ورأت أن الإنسان هو الرأسمال الحقيقي لأي دولة وأن صحته هي الأساس وهو الذي جعل للصين هيبة وعظمة وهو القادر على نقل الصين إلى قوة إقتصادية أولى في العالم، لذلك لم تنظر الدولة الصينية ونظامها السياسي للخسائر الإقتصادية كأولوية ولم تقلق في أن تضخ عشرات إن لم تكن مئات المليارات من أجل إنقاذ الإنسان في الصين ولاحقا في العالم، نجحت الخطة في الصين ونجح الحزم التام حتى لو كان بلا رحمة في وقف زحف شياطين "الكورونا" المُصَنّعة من الحاقدين على الإنسانية، وقد تبعتها في ذلك كلاً من كوريا الجنوبية وسنغافورة وإيران التي إنتشر فيها الفيروس بقوة، في حين روسيا رأت في الصين نموذجا لها.
الثانية، هي عقلية "الشركة"-الغربية، وأقصد هنا الرأسمالية المتوحشة والتي لم تُعطي ومنذ البداية في أولوياتها الإعتبار للإنسان كأساس لكل شيء في هذه العالم، وكعادتها لحقت المال والإقتصاد لإعتقادها أن الدولار وحده يؤهلها لأن تبقى على عظمتها وريادتها للعالم، ونسيت أن من خلق هذه العظمة هو الإنسان، فهو من أوجد الشركة، لكنه جعلَ منها الأداة لتتحكم به وبحياته، ففقد دوره وأصبحت حياته تعتمد على سياسات هذه الشركات التي لا ترى في الإنسان غيرِ أداة من أدواتها تستطيع شراؤه لتزيد من تكديس ثرواتها ونفوذها على العالم، لذلك قامت "الشركة" وعبر وسائل إعلامها بالحديث عن "الكورونا" وكأنها إنفلونزا عادية، وأن لا حاجة اللخوف وما يجري في الصين هو مبالغ فيه، فلم تتخذ تلك الدول قرارات صارمة إلا بعد أن إنتشر الوباء وبعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية عن "الكورونا" كوباء عالمي.
إيطاليا أصبحت تُعاني الموت اليومي وإسبانيا تَئِن من سرعة إنتشار الفيروس، وفرنسا "ماكرون" تركض لتقليل الخسائر، و"ميركل" ترى فيه أكبر تحدي لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية مع خطوات منخفضة المستوى في البداية، أوروبا ككل دخلت في ذعر كنتيجة للسياسات الحكومية، حتى أن بوريس جونسن رئيس وزراء بريطانيا خرج ليتحدث عن سياسة "مناعة القطيع" بل طالب سكان بريطانيا ب "توديع أحبائهم" قبل أن يبدأ بإتخاذ خطوات لا تزال بطيئة بعض الشيء، في حين رئيس وزراء صربيا عبّر عن إمتعاضة من سياسة الإتحاد الأوروبي تجاه بلاده وإعتبر أن الصين هي الصديق الحقيقي لصربيا، أما في الجانب الآخر من الأطلسي فقد أعلن الرئيس "ترامب" في البداية بأن هذا الفيروس سيذهب لوحده وسماه "الفيروس الصيني" كتعبير حاقد وعنصري ضد الصين، قبل أن يبدأ بإتخاذ خطوات عملية لمواجهة الإنتشار السريع للكورونا.
سياسة الدول الأخرى إرتبطت بالعقليتان أعلاه، فمثلا، إسرائيل فضلت الإنتخابات على إتخاذ خطوات سريعه وتأخرت في إتخاذ إجراءات عملية وسريعة حتى أعلنت منظمة الصحة العالمية عن "الكورونا" كوباء، وهي لا تزال تُفضل الإقتصاد على غيره رغم قيامها بخطوات متدحرجة وبتسارع أكثر يوماً بعد يوم، في حين الدول الفقيرة وبسبب بنيتها الصحية المتواضعة وقلة الإمكانيات أخذت قرارات حاسمة وسريعة مثل السلطة الفلسطينية والأردن ومصر في حين دول كقطر والإمارات والسعودية والكويت سارعت فوراً للحد من إنتشاره بعد أن هالها مشهد إيران وإيطاليا، ويمكن القول أن مُجمَل الدول الفقيرة ترى في الطريقة الصينة هي الأنجع في مواجهة غزوة "الكورونا".
مشهد العالم بعد الخروج من تداعيات حرب "الكورونا" حتماً سيتغير، وسيبدأ الصراع على أولويات تختلف عن سابقتها، فالبحث العلمي والبنية الصحية ووجود خطة عالمية موحدة لمواجهة أي وباء مستقبلي، والتعاون بين الدول وتقديم المساعدات الإنسانية، أصبحت لها الأفضلية على مفهوم "الشركة" ومفهوم "الربح"، فقد ثبت حتى الآن أن جشع الرأسمالية المتوحشة سيأخذ العالم إلى الهاوية، ورغم محاولات اليمين "الشعبوي" لإستغلال هذه الحرب العالمية من الجيل البيولوجي لتعزيز أفكارة المتمثلة في إغلاق الحدود والعودة لشعارات "أمريكا" أولا كما يُصرح دائما الرئيس "ترامب" والذي حاول ضمان شراء لقاح الماني يتم تطويره ضد الفيروس حصريا لبلاده، في تعبير واضح عن عقلية الجشع والطمع والإحتكار، إلا أن الرد الألماني بإعلان أن "ألمانيا ليست للبيع" أعادت الإعتبار للإنسانية ووضعت اللبنة الأولى لما بعد "الكورونا"، كما أن المساعدات الإنسانية العاجلة الصينية لكل من إيران وإيطاليا وصربيا وغيرها تفتح الباب واسعا لتشكيل نظام عالمي جديد اساسه الأنسنة والقيم الإنسانية لا الصفقات ولا الإحتكارات "الترامبية"، ويكون شعاره "الإنسان أولاً" و "معاً نتعاون"، وحتما ستنجح الصين ومن معها في إعتماد القانون الدولي والتعاون وستفشل سياسات العنصرة والإنغلاق، فالرأسمالية المتوحشة إلى أفول.