تشهد إسرائيل أزمة ائتلافية حادة على خلفية قانون تجنيد الحريديين أو الإعفاء منهم، ما يهدد حكومة بنيامين نتنياهو بالسقوط والذهاب إلى انتخابات مبكرة. لكن السؤال المطروح هو: هل هذه الأزمة جديدة أم تعبير عن تناقضات عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي؟
يعود إعفاء الحريديين من الخدمة العسكرية إلى فترة تأسيس إسرائيل، حينما وعد دافيد بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، في يونيو 1947، حزب "أغودات يسرائيل" الحريدي بالحفاظ على استقلالية التعليم الحريدي، وتم تطبيق ذلك خلال حرب 1948 عبر قانون الخدمة الأمنية لعام 1949 الذي أتاح إعفاء طلاب معاهد التوراة الحريدية من الخدمة العسكرية. في 1958، وبعد ازدياد أعداد الطلاب الحريديين، تم التوصل إلى تسوية تسمى "تأجيل" الخدمة، حيث خضع الشاب الحريدي إلى ثلاثة سيناريوهات للتجنيد تبعاً لعمره وحالته الدراسية، ما جعل معظم الحريديين معفيين فعليًا من الخدمة العسكرية الإلزامية خلافاً لبقية فئات المجتمع الإسرائيلي. مع نهاية التسعينيات، صار يُنظر إلى دراسة التوراة كـ"حرفة" توازي الخدمة العسكرية.
اليوم، يطالب الحريديون بالحفاظ على هذا الإعفاء التاريخي، بينما تسعى لجنة الخارجية والأمن في الكنيست إلى سن قانون تجنيد جديد يتجاوز هذه التفاهمات، مطالبين بالمساواة في التجنيد واعتبار الخدمة العسكرية قيمة أساسية. في المقابل، تواجه هذه المطالب انتقادات بسبب الواقع الاقتصادي والاجتماعي للحريديين، الذين يوصفون بأنهم يعتمدون على مخصصات الدولة وأجهزة تعليمهم تفتقر إلى المواد الأساسية، مما يؤدي إلى تفشي الفقر وتأثير سلبي على الاقتصاد الإسرائيلي.
في الأسبوع الماضي، طالب حزب "أغودات يسرائيل" نتنياهو بحل قانون التجنيد فور انتهاء عيد نزول التوراة ("شفوعوت"). وأوعز حاخامات كتلة "يهدوت هتوراة" الحريدية بالانسحاب من الحكومة، مع احتمالية التوجه إلى حل الكنيست. إذا ما حدث ذلك، قد يدعم حزب شاس هذه الخطوة، رغم أن رئيسه أرييه درعي يميل إلى انتخابات مبكرة بنسق متفق عليه مع نتنياهو. في الوقت ذاته، أشار بعض التقارير إلى احتمالية انسحاب الحاخامات من الائتلاف فقط لمنح نتنياهو مهلة لتسوية الأزمة.
يحاول نتنياهو تفادي سقوط حكومته، ومن المتوقع أن تبدأ خطواته بإقالة رئيس لجنة الخارجية والأمن، يولي إدلشتاين، الذي اتسم بمواقف متشددة تجاه الحريديين، مثل وقف تمويل الحضانات الحريدية وفرض عقوبات على من يرفض التجنيد، إضافة إلى إيقاف التمويل عن معاهد التوراة التي لا تتعاون. كما من المتوقع أن يلجأ نتنياهو إلى وزيري المالية والأمن القومي، لتسوية الأزمة بتخفيف العقوبات وضمان استقرار الائتلاف، لا سيما أن وزيري سموتريتش وبن غفير يمثلان قاعدة يمينية متشددة يتطلب منها دعمهم مواقف حازمة في ملف التجنيد.
من جهة المعارضة، لا تملك سوى اقتراح حل الكنيست، الذي يتطلب دعم الحريديين، ما يجعل صياغة قانون التجنيد مهمة حساسة للغاية. كما تواجه الحكومة احتمال طعن قانون التجنيد أمام المحكمة العليا، التي سبق أن طالبت الحكومة بسن قانون مع جدول زمني واضح، لكنها لم تُنفذ هذه المطالب. المحكمة أصدرت مؤخراً أمراً احترازياً يطالب الحكومة بتوضيح عدم تنفيذ أوامر التجنيد وفرض العقوبات.
الحكومة تسعى لتجاوز هذه القرارات القضائية، وقد تشرع قانونًا يلغي الرقابة القضائية على قانون التجنيد، ما يعكس صراعًا أعمق بين السلطات القضائية والتنفيذية.
هذه الأزمة ليست مفاجئة، فقد كانت تتصاعد منذ فترة طويلة، والاحتقان السياسي والاجتماعي حول تجنيد الحريديين بات يشكل تهديدًا حقيقياً لاستقرار الحكومة. الاستطلاعات تشير إلى ثبات دعم "يهدوت هتوراة" وحزب سموتريتش وبن غفير، مع تراجع محتمل لحزب الليكود، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي.
تم تسريب مكالمة هاتفية بين نتنياهو وأحد كبار حاخامات "ديغل هتوراة" تظهر تعهداً بحل الأزمة فقط بحلول رأس السنة العبرية في سبتمبر، ما يوحي بأن التصعيد والانتخابات قد تكون وشيكة.
على الرغم من ذلك، قد تؤجل الأحزاب الحريدية الأزمة لصالح الحفاظ على ميزانيات ضخمة حصلوا عليها، بالإضافة إلى رغبة رئيس حزب شاس في تجنب إسقاط الحكومة حفاظًا على تأييد ناخبي حزبه لنتنياهو، وحرصًا على مصالحهم في التعيينات الدينية وتوسيع الاستيطان التي لن تتحقق في حكومة بديلة.
في الوقت ذاته، تواجه المعارضة تحديات في تشكيل أغلبية قادرة على حكم إسرائيل، مع اتساع الفجوة المجتمعية والسياسية، وتوترات حول دور القضاء والحرب على غزة. ضغوطات من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على نتنياهو لوقف الحرب والتوصل لاتفاق تبادل أسرى قد تلعب دورًا في تطورات الأزمة، حيث قد يستغل نتنياهو نجاح هذه الضغوط في الترويج لإنجازاته، وفي الوقت ذاته، قد يفتعل أزمات ائتلافية تؤدي إلى انتخابات في نهاية العام أو بداية العام المقبل، وسط تداخل مصالح حزبية وشخصية مع مصالح رئيس الحكومة السابق نفتالي بينيت الذي يحاول العودة إلى الساحة السياسية.
باختصار، أزمة تجنيد الحريديين في إسرائيل ليست مجرد مسألة قانونية، بل تعكس صراعًا عميقًا بين الأبعاد السياسية والاجتماعية والدينية، يهدد استقرار الحكومة ويكشف الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي.