تؤكد يوميات الحرب ومنعطفاتها أن ليس بمقدور حكومة نتنياهو وقيادة «حماس» التوصل إلى حل ينهي الحرب. والسبب يعود إسرائيليا، إلى أن إنهاء الحرب سيُسقط حكومة نتنياهو بينما استمرار الحرب سيبقي عليها مزيدا من الوقت، ربما إلى موعد الانتخابات القادمة في تشرين الأول 2026. وتراهن حكومة نتنياهو على الحسم العسكري باستخدام المزيد من القوة والمزيد من القتل والتدمير والتهجير والتجويع، أي بمعاقبة 2.3 مليون مواطن غزي بأكثر أشكال العقاب الجماعي وحشية وفاشية، وصولا إلى «استئصال» (حماس) أو فرض الاستسلام عليها. وتدفع حكومة نتنياهو بخطة عسكرية جديدة تحت مسمى «عربات جدعون». تقضي الخطة بإعادة احتلال وتجريف وتدمير قطاع غزة بشكل منهجي وتجميع معظم سكانه في منطقة الحدود الجنوبية، ووضعهم في معسكرات خاضعة لسيطرة عسكرية محكمة وحصر دخول الماء والغذاء والدواء داخل هذه المعسكرات فقط.
كان اليوم التالي للحرب بالنسبة لحكومة نتنياهو هو المزيد من التدمير والقتل والإذلال للقضاء على حكم «حماس» وقدراتها العسكرية. ولكن بعد إعلان ترامب عن تهجير سكان قطاع غزة وتحويله إلى ريفيرا سياحية، استيقظ حلم معسكر اليمين الإسرائيلي الكاهاني في تهجير الشعب الفلسطيني، الذي سرعان ما تبنته حكومة نتنياهو ووضعت الآليات لتطبيقه، فضلا عن بقاء الاحتلال وإعادة الاستيطان داخل قطاع غزة. في هذا السياق، أدخلت حكومة الاحتلال تعديلات كبيرة على خططها العسكرية، لجهة استخدام المساعدات الإنسانية كعنصر ضغط هائل على عموم المواطنين، وفصل الناس عن «حماس» وفصل الأخيرة عن المساعدات والحيلولة دون استخدامها. التعديل الآخر الذي أدخلته المؤسسة العسكرية هو البقاء في المناطق التي تتم السيطرة عليها وما يعنيه ذلك من بقاء الاحتلال إلى مدى زمني مفتوح. غير أن بقاء الاحتلال دون إيجاد بديل فلسطيني متفق عليه سيحول دون مشاركة أطراف دولية وعربية في الدعم وإعادة الإعمار. كما أن اضطرار قوات الاحتلال للخروج والسيطرة عن بعد سيقود إلى عودة سيطرة «حماس» على المكان. ما تقدم يشير إلى أن حكومة نتنياهو لا تملك خيار إنهاء الحرب وليس من مصلحتها إنهاؤها إلا بشروطها الكاملة غير المنقوصة.
في الجهة الأخرى فإن «حماس» تريد وتطرح إنهاءً للحرب بشروط المنتصر تقريبا، وهي لا تملك من عناصر القوة ما يكفي لإبرام صفقة كما كان يحدث في كل المواجهات السابقة. تملك «حماس» ورقة الأسرى التي أثرت في المجتمع الإسرائيلي حيث قالت أغلبيته 61- 70% إنها تقبل وقف الحرب مقابل إعادة الأسرى والجثامين. وتؤيد المعارضة الإسرائيلية وأجهزة أمن وعدد كبير من ضباط وجنود الجيش والاحتياط إنهاء الحرب. من جهة أخرى، تملك «حماس» القدرة على خوض حرب عصابات طويلة في مواجهة جيش محتل وتستطيع أن تفرض على الجيش المتفوق والمتغطرس الهبوط إلى أدنى مستويات الحرب وهي حرب العصابات التي عادة ما تلحق بالجيش النظامي خسائر كبيرة ومتلاحقة بمرور الوقت. كما لا يستطيع الجيش المتفوق أن يفرض شروطه النهائية قبل أن يخسر هيبته وسمعته وعجرفته، وقبل أن يحول إسرائيل إلى دولة منبوذة ويضع معظم قيادتها السياسية والعسكرية وضباطها وجنودها في موقع المتهمين أمام المحاكم الدولية وفي العالم.
هذه الحسبة صحيحة في حالة حرب يخضع طرفاها للقانون الدولي وكل منظومة القوانين التي لا تجيز تعريض المدنيين للإبادة، ولا تجيز تدمير المنازل والمستشفيات والبنية التحتية، وتحظر استخدام الغذاء والدواء كعقوبة جماعية، وتسمح بوجود مكان آمن للمدنيين والأبرياء والجرحى. لا يمكن تطبيق هذه المعادلة والشعب في قطاع غزة يتعرض للإبادة ويخسر كل حقوقه وفي مقدمتها الحق في الحياة والحق في الطعام والدواء والعلاج والمكان الآمن، وتتحول مدنه ومخيماته وبلداته إلى أنقاض. لا يمكن تطبيق هذه المعادلة والشعب معرض للتهجير بدعم الرئيس الأميركي. كل الخسائر الإسرائيلية المذكورة والمحتملة لا تساوي شيئا أمام الكارثة التي تحل بالشعب الفلسطيني في قطاع غزة. اسرائيل تخسر بمستوى تستطيع التعايش معه في مقابل شعب يتعرض لخطر وجودي - إبادة وتهجير وإذلال وخسارة كل شيء -. لا يمكن القبول بهذه المعادلة الصارخة التفاوت التي بدأت قبل 19 شهرا ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. تخسر اسرائيل مئات الجنود وتخسر اقتصاديا وتحتمل مثل تلك الخسارات المحدودة، وتتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة لكنها تستطيع الإفلات من العقاب وقد وضعتها الإدارات الأميركية فوق القانون. مقابل ذلك، يخسر قطاع غزة عشرات آلاف الضحايا وأضعاف هذا الرقم جرحى ويُدمر البلد ويُذل مواطنوه أثناء بحثهم عن لقمة عيش وشربة ماء وحبة دواء، ويتعرض من يبقى على قيد الحياة للتهجير. من يقبل بهذه المعادلة؟ لا الذكاء البشري يقبل، ولا الذكاء الاصطناعي يرضى، ولا الكائنات الحية بتعلمها الشّرْطي تقبل، ولا الوعي الإنساني الحر يقبل. فقط «حماس» وأخواتها والمتيمون بها يقبلون. فقط من لا يهمهم خسارة شعب مقابل بقاء التنظيم، فقط من يقبلون بخسارة بلدهم مقابل بقاء سلطتهم. من يقتنع بهذه المفاضلة أو المبادلة فقط هم أصحاب الأيديولوجيا المسكونون بتفضيل الشهادة على الحياة بشكل مجرد، والذين يعتبرون الخسائر أمرا طبيعيا ويقدمون نسخة واحدة للأحداث التاريخية دون رؤية الواقع الذي يعيشه شعبهم، وأوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف مع الشعوب الأخرى.
إذا احتكم إلى لغة العقل والمنطق ومصلحة السواد الأعظم من المواطنين، فإن قرار الخروج من مواجهة معروفة النتائج بأسرع وقت، واجب كل فلسطيني لأنه سيقطع الطريق على الكم الهائل من الخسائر وعلى الخطر الوجودي. كان الواجب الوطني يستدعي اتخاذ مثل هذا القرار بعد شهر من تجربة الحرب المريرة، بعد شهرين وثلاثة. لكن اللياقة المعرفية والسياسية والوطنية لأصحاب قرار الحرب كانت تحول دون ذلك ولا تزال.
لا يرغب نتنياهو ومعسكره في إنهاء الحرب ويعملون على تدمير البقية الباقية من المجتمع الفلسطيني. ولا تقبل «حماس» بخسارة حكمها مهما كان الثمن الذي يدفعه شعبها. إزاء ذلك، هل يمكن إنهاء الحرب بمبادرات خارجية؟ يقول غيث عمري الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، لأن الديناميات السياسية الفلسطينية والإسرائيلية لا تسمح بإنهاء الحرب فإن هذا يتطلب تدخلا خارجيا. ويضيف، يستطيع ترامب الضغط على نتنياهو لوقف الحرب ولكن مقابل تلبية شروط محددة هي: إطلاق الرهائن، نزع السلاح، وإنهاء حكم «حماس». وتستطيع الدول العربية الرئيسة بموقف موحد مطالبة «حماس» باتخاذ تلك الخطوات. لا شك في أن مصلحة الشعب الفلسطيني تستدعي مبادرة فلسطينية تشارك فيها «حماس» تلتقي مع المبادرة المصرية وتتحول إلى مبادرة عربية لإنهاء الحرب بضمانة عربية ودولية، وبقوة مشتركة من الأمم المتحدة تؤمن الحماية للشعب الفلسطيني.