بعد عدة إعلانات مثيرة للجدل، أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بمجرد دخوله البيت الأبيض، كان إعلانه الأهم والأخطر، الذي زلزل العالم بأسره، والذي سماه هو شخصياً يوم التحرير، وقصد منه تحرير الاقتصاد الأميركي من قوانين التجارة العالمية، بإعلان فرض تعرفة جمركية على معظم دول العالم، حيث تستورد منها الولايات المتحدة ما تحتاجه من سلع ومواد خام، وذلك بهدف تخفيف العجز في الميزان التجاري، والذي هو في غير صالح أميركا، وذلك في محاولة أطلقت عليها الصين وصف التنمر الاقتصادي، لإعادة سيطرة الاقتصاد الأميركي على التجارة العالمية، وإحباط التحدي الاقتصادي الصيني، وبذلك الإعلان يكون دونالد ترامب قد اختار الطريق السياسي المفضل لإدارته الجمهورية، بما لا يتناقض، أو بما توافق وإلى حد كبير بما توقعه معظم المراقبين والمتابعين، الذين قالوا، إن ترامب رجل العقارات يفضل عقد الصفقات التجارية، وأنه كجمهوري، يختار طريق «البزنس» وليس طريق الحرب.
وطريق الحرب كان طريق سلفه الديمقراطي جو بايدن، وقد اتضح بشكل لا يقبل الشك، على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وإذا كان الحزبان والرئيسان الديمقراطي والجمهوري، يجتمعان على محاولة الحفاظ على السيطرة الأميركية على النظام العالمي، فإنهما اختلفا، كما سبق لنا القول، وفي أكثر من مقال، حول الطريق الذي يحقق ذلك الهدف، خاصة أن كلاً منهما يعتمد على قوى انتخابية، منها صناعة السلاح، ومنها سوق العقارات، وشركات التكنولوجيا والبرمجيات، وهي الإنتاج الرئيس الذي باتت تصدره أميركا للعالم الخارجي مقابل استيراد السلع المختلفة، من السيارات والأدوات الكهربائية، إلى الملابس والأحذية، وكل ذلك حدث في ظل العولمة التي رافقت النظام العالمي أحادي القطب الأميركي، والتي كان أحد أهم تجلياتها التداخل التجاري بين دول العالم، وهنا ظهر الخلاف مؤخراً بين ترامب وحليفه المهم في إدارته الحالية الملياردير إيلون ماسك.
وإذا كانت طريق الحرب العسكرية قد جمعت بايدن مع فلوديمير زيلنسكي، وكانت محاولة أيضاً لإعادة الحياة إلى الناتو، بعد عقود من عدم الحاجة له، بعد تفكك حلف وارسو، وبعد انتهاء الحرب الباردة بفصلها الأبرز وهو حرب النجوم، فإن طريق الحرب الاقتصادية، تفرق بين ترامب وبنيامين نتنياهو، رغم العلاقة الوثيقة جداً التي تجمع الجمهوريين بإسرائيل، وحتى باليمين الإسرائيلي، لكن وكما سبق وتوقعنا، بأن لحظة ستأتي تضطر فيها أميركا إلى أن تختار بين مكانتها كقائد للنظام العالمي، وبين كونها حليفاً استراتيجياً لإسرائيل اليمينية المتطرفة، ويبدو أن هذه اللحظة باتت على الأبواب، وهذا ما يوحي به استدعاء ترامب لنتنياهو، وذهابه المفاجئ لواشنطن، وما تخلل تلك الزيارة، مما شاهده وحلله المراقبون، من إقدام ترامب على «تحجيم» واحتواء وحتى توجيه صفعة لنتنياهو، الذي كان قد تبجح وهو في طريقه لواشنطن، بأنه الوحيد من بين قادة العالم، الذي يلتقي ترامب لمناقشة التعرفة الأميركية التي فرضت أيضاً على إسرائيل.
وبالنظر إلى ميزان التجارة بين إسرائيل وأميركا، وإلى حجم المساعدات المالية السنوية التي تقدمها أميركا لإسرائيل، لا بد من الإشارة إلى أن ما يحكم العلاقة التجارية بينهما هو اتفاقية التجارة الحرة الموقعة منذ العام 1985، وكانت أول اتفاقية تجارة حرة تربط أميركا مع بلد خارجي، ثم ما تلاها من إعفاء جمركي لمنتوجات إسرائيل الزراعية، وتعتبر اتفاقية التجارة الحرة مهمة جداً للاقتصاد الإسرائيلي، فهي أدت إلى نمو التبادل التجاري بنيهما بثمانية أضعاف منذ ذلك العام، فيما تخطى حجم التبادل التجاري بين الدولتين العام 2022 حاجز 50 مليار دولار، كانت منها الصادرات الأميركية 20 ملياراً، فيما الصادرات الإسرائيلية تجاوزت 30 ملياراً.
أي أن العجز التجاري الأميركي في العلاقة التجارية مع إسرائيل تجاوز 10 مليارات دولار، لذلك فقد شملت التعرفة الجمركية التي أعلنها ترامب الأسبوع الماضي، إسرائيل وبلغت نسبة 17%، ولأجل هذا ظن نتنياهو أن ترامب الذي أطار عقله قبل أسابيع، وفي لقائه الأول به، بإعلانه عن خطته الخاصة بإفراغ قطاع غزة من سكانه، استدعاه لأجل استثناء إسرائيل من إعلان الحرب التجارية، وأنه ربما سيقدم له ذلك كهدية شخصية، لكن استدعاء ترامب لنتنياهو، كما لو كان موظفاً في إدارته، وقد وشت مظاهر الاستقبال بحرص ترامب على الظهور كرجل يتحكم بكل من يحيط به، وحتى بمن يستقبلهم من قادة الدول، صحيح أنه لم يعامله كما عامل زيلنسكي من قبل، لكنه حرص على أن يظهره كتابع أو في أحسن الأحوال كمتلقٍ لما يمليه عليه من مواقف سياسية.
ولم يكن نتنياهو وحده، هو من تفاجأ بما لقيه وسمعه في البيت الأبيض، بل كل المهتمين في إسرائيل، الذين لم يكونوا على علم بما سيشمله البحث بين ترامب ونتنياهو، أو ما سيتم التركيز عليه، حيث لم يكن أحد لديه الوهم، بمشاركة نتنياهو ادعاءه، بأنه ذاهب ليناقش التعرفة الجمركية الخاصة بإسرائيل، وبأنه ذاهب ليتلقى دعماً إضافياً من ترامب فيما يخص حربه ضد غزة وسورية ولبنان، أو من أجل ترتيب شكل وتفاصيل الضربة العسكرية القاضية لإيران.
وقد بلغ «التفاؤل» في أوساط مكتب نتنياهو لدرجة، أنهم قالوا إن اللقاء بين الرجلين، سيقرر إن كانت الضربة ضد إيران ستكون مشتركة أم ستقتصر على أميركا، وإن ترامب في سبيل ذلك لن يتفهم فقط، مواصلة نتنياهو للحرب على غزة، ومتابعة قصف لبنان ومواصلة التوغل الأمني في سورية، بل سيتفهم إقدام إسرائيل على السعي لاستباحة الأجواء العراقية، كل ذلك لفتح طريق الحرب وصولاً لإيران، إن كان بالمعنى اللوجستي، أي فتح الطريق أمام الطائرات الحربية، وحتى القوات البرية، أو المعنى السياسي، حيث يعني مواصلة الحرب العسكرية على كل الجبهات، وصولاً لضرب طهران، بهدف تدمير مفاعلاتها النووية وإسقاط نظامها السياسي.
وبعد لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية موفد ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، بما يعني اهتمام واشنطن بصفقة التبادل مع حماس، كان إعلان واشنطن الأهم وخلال لقاء ترامب نتنياهو هو إجراؤها التفاوض مع إيران، وذلك لأن ترامب حالياً يعتبر أنه قدم لنتنياهو كل ما يمكنه تقديمه، إن كان بإعلانه عن إفراغ غزة من سكانها، أو بموافقته على العودة للحرب وصولاً لهدف إخراج حماس سياسياً وعسكرياً من غزة، وقد فعل ويتكوف أقصى ما يمكنه فعله بمقترحه الذي تضمن إطلاق سراح نصف الأحياء ونصف القتلى من المحتجزين الإسرائيليين، مقابل مواصلة وقف إطلاق النار، هكذا جاء إعلان ترامب عن إطلاق المفاوضات المباشرة مع إيران مدوياً، وهو يعني تماماً أن طريق ترامب ليس هو طريق نتنياهو، وكون أن واشنطن أعلنت أن من سيتولى المفاوضات مع طهران هو ويتكوف نفسه مقابل وزير خارجية إيران عباس عراقجي، فذلك يعني بكل بساطة أن ويتكوف سيركز على ملف إيران أكثر من ملف غزة.
هكذا سيجد نتنياهو نفسه في مواجهة الداخل الإسرائيلي، وحماس مع رعاة التفاوض المصريين والقطرين، بينما سيفقد كثيراً من الدعم الذي بات هو السند الوحيد له، الذي كان يقدمه له ترامب في هذا الملف وعلى صعيد الإسناد السياسي العالمي عموماً، وما يزيد من ورطة نتنياهو وهو يواجه مشاكل لا حصر لها، هو أن ترامب يهيئ أجواء الشرق الأوسط لزيارته الشهر المقبل إلى السعودية، وعلى شجرة السعودية أكثر من عصفور يأمل ترامب باصطياده، أولها هو مليارات خليجية إضافية يحلم باستثمارها في الاقتصاد الأميركي، وثانيها هو ملف التطبيع، حيث لا ينسى ترامب أن أهم ما حققه في ولايته السابقة هو «اتفاقيات أبراهام»، ولأجل هذا لا بد من إغلاق طريق الحرب الإقليمية التي يسير عليها نتنياهو للحفاظ على ائتلافه الحاكم، وتحقيق طموح إسرائيل الكبرى الإقليمي، والذي يعني أن تلك الحرب باتت حرباً على المحاور الإقليمية الثلاثة: المحور الإيراني، المحور التركي، والمحور العربي أو السعودي/المصري/ الإماراتي.
أما تهديدات ترامب فقد تأكد دون أدنى للشك، بأنها ذات وظيفة تفاوضية أصلاً، فهو من أجل عقد الصفقة السياسية مع إيران، لوح باستخدام القوة، وهدد بجحيم غزة، من أجل عقد صفقة التبادل، ولم يتجاوز حد الاكتفاء بتأييد نتنياهو لفظياً، وأقصى ما ذهب له ترامب عسكرياً هو إرسال حاملات الطائرات للبحر الأحمر وقصف مواقع الحوثي، كما فعل بايدن، أي أنه يهدد بأقصى حد، لكنه لا يخوض الحرب العسكرية بأكثر مما فعل سلفه، أو بالنيابة عن إسرائيل، هكذا ستمضي الأمور، بعد مرور مائة اليوم الأولى على تولي ترامب مقاليد الإدارة، حيث يبدو أن أميركا في نهاية المطاف ستقتنع بموقع قيادي للنظام العالمي، يشاركها فيه الأقوياء، بعد أن باتت مصادر القوة هي الاقتصاد أولاً، والقوة العسكرية ثانياً، وهذا وتلك لا يقتصر امتلاكهما لا على أميركا ولا على إسرائيل وحدهما.