- معاريف: توسيع العمليات العسكرية في قطاع غزة على أجندة المداولات الأمنية التي يعقدها نتنياهو الليلة
في ليلةٍ احتفت فيها هوليوود بفيلم "لا أرض أخرى" الفلسطيني، الذي رفعَ كأس الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي، كان أحد صانعيه، حمدان بلال، يُنقل مُضرّجًا بدمائه داخل سيارة إسعاف اقتحمها جنود الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يختفي في زنزانةٍ مجهولة. لم تكن المفارقة مجرد صدفة؛ فالفوز التاريخي للفيلم، الذي يوثق جرائم الهدم والتهجير في بلدة "ماسار يوسف" الفلسطينية بالقدس المحتلة، تحوّل بين عشية وضحاها من لحظة انتصار للرواية الفلسطينية إلى شاهدٍ جديد على وحشية آلة عسكرية تُحاول إسكات كل صوتٍ يروي حكاية الأرض.
الفيلم، الذي شارك في إنتاجه صحفيون فلسطينيون وإسرائيليون، لم يكن مجرد عملٍ فني، بل شهادةٌ مصوّرة على واقعٍ يعيشه الفلسطينيون يوميًا: بيوتٌ تُهدم فوق رؤوس أصحابها، عائلاتٌ تُطرد من أحياء أجدادها، وأطفالٌ يحملون هوياتٍ زرقاءَ بلا حقوق. لكن اللافت أن الكاميرا نفسها التي نقلت هذه المعاناة للعالم، وُجِّهت فجأةً نحو مأساة صنّاعها. فقبل ساعات من حفل الأوسكار، تعرّض حمدان بلال، المنتج الفلسطيني للفيلم، لاعتداءٍ وحشي من قوات الاحتلال خلال اقتحام بلدةٍ قرب رام الله. أصيب بنزيفٍ حادٍّ جراء الضرب المبرح، قبل أن تُحاصر سيارة الإسعاف التي كانت تنقله، وتقتحمها قوات خاصة إسرائيلية، لتنقله إلى "جهة غير معلومة"، بحسب بيان فريق الفيلم، الذي أضاف: "حمدان في خطر.. الاحتلال يريد إخفاء جريمته".
الحادثة لم تكن معزولةً عن سياقها الأوسع؛ فـ"لا أرض أخرى" هو ابن شرعي لسنواتٍ من المقاومة البصرية الفلسطينية، التي حوّلت الكاميرا سلاحًا في مواجهة الرواية الصهيونية. منذ عام ١٩٤٨، حاول الاحتلال ليس فقط السيطرة على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة. صورٌ مثل "حملة الهويات الفلسطينية المحترقة" عام ١٩٦٧، أو توثيق مجازر صبرا وشاتيلا، أو فيديوهات الشهداء الأخيرة على هاتف الطفل محمد الدرة، شكّلت أرشيفًا مرئيًا يفضح الاحتلال. اليوم، يعيد الفيلم الفائز بالأوسكار إحياء هذا النهج، لكن بثمنٍ باهظ: فكل لقطة تُظهر وحشية الاستيطان تُوازيها لقطةٌ أخرى من واقع صنّاعها، الذين يدفعون من دمائهم ثمناً لكلمة "حرية".
الاعتداء على بلال يأتي في سياق تصعيدٍ إسرائيلي ممنهج ضد أي صوتٍ فلسطيني دولي. فقبل أشهر، اغتيل الصحفي شيرين أبو عاقلة، وفي عام ٢٠٢١، دُمّرت مكاتب وكالة "أسوشيتد برس" في غزة خلال قصفٍ إسرائيلي، كرسالةٍ لمن يوثقون الحرب. الأكثر قسوةً أن اختطاف بلال من داخل سيارة إسعافٍ يذكّر بأساليب عصابات "الهاغاناه" قبل ١٩٤٨، حين كانت تقتحم المستشفيات لاختطاف الجرحى الفلسطينيين. الفارق اليوم أن الجريمة تُرتكب تحت أنظار العالم، وبعد ساعاتٍ من تسليط الأضواء على قضية فلسطين عبر الأوسكار.
لكن ما يُثير التساؤل: لماذا تخشى إسرائيل من فيلمٍ وثائقي إلى هذا الحد؟ الإجابة تكمن في تحوّل القضية الفلسطينية من صراعٍ عسكري إلى معركة سرديات. فالعالم الذي صفق للفيلم هو نفسه الذي يشاهد الآن اختفاء أحد نجومه. الاحتلال يدرك أن كل فيلم مثل "لا أرض أخرى" يُعيد تعريف الشباب الغربي، الذي نشأ على رواية "الدولة الوحيدة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، بأن الصورة أكثر تعقيدًا من ذلك. فتحت أنقاض المنازل المُهدمة في القدس، ووجوه الأطفال المُرعبين خلال الاقتحامات العسكرية، تُولد روايةٌ مضادة تُهدد شرعية المشروع الاستعماري برمته.
المفارقة الأكثر مرارةً أن الفيلم نفسه أنتج بتعاونٍ فلسطيني-إسرائيلي، كتجسيدٍ لـ"سلام الشعوب" في مواجهة عنف الأنظمة. لكن اختطاف بلال كشف زيف هذه المعادلة أيضًا؛ فبينما كان الشركاء الإسرائيليون في الفيلم يتلقون التهاني في هوليوود، كان شريكهم الفلسطيني يُغيب قسرًا. هذا ليس انحيازًا أعمى للاحتلال فحسب، بل تأكيدٌ أن السلام الحقيقي لا يُبنى تحت نير الاستيطان.
القصة لا تنتهي عند بلال. فخلفه هناك آلاف الفلسطينيين المجهولين، الذين يختفون في سجون الاحتلال بدون محاكمة. وفقًا لمنظمات حقوقية، يعتقل الجيش الإسرائيلي شهريًا نحو ٥٠٠ فلسطيني، بينهم أطفال ونساء، فيما يُعرف بسياسة "الاعتقال الإداري"، التي تتيح احتجاز أشخاصٍ لشهور دون تهم. كثيرون منهم يُعذبون، أو يُحرمون من الرعاية الطبية، أو يموتون في السجون، مثل الأسير ناصر أبو حميد، الذي رحلَ بعد صراعٍ مع السرطان بين القضبان.
في الختام، "لا أرض أخرى" ليس مجرد عنوان فيلم، بل هو واقع الفلسطينيين: شعبٌ يُحاصر في شظايا أرضه، ويُحارب ليبقى. جائزة الأوسكار التي حملها صنّاع الفيلم ليست تذكارًا فنيًا، بل صرخةٌ تُضاف إلى مليون صرخةٍ لم تُسمع. أما اختطاف حمدان بلال، فهو تذكيرٌ بأن الاحتلال لا يسرق الأرض فقط، بل يحاول سرقة الأمل. لكن التاريخ يُعلّمنا أن كل محاولات إسكات الرواية الفلسطينية فشلت: من دمار القرى عام ٤٨، إلى اغتيال الصحفيين اليوم. فالشعب الذي يُبدع فيلمًا عن فقدان الأرض من قلب المعاناة، هو نفسه القادر على كتابة نهاية مختلفة لهذه الحكاية. السؤال الآن: من سيُغمض عينيه أولًا.. العالم عن جرائم الاحتلال، أم الشمس عن غروب آخر على أرضٍ لا سكّان لها إلا أصحابها الحقيقيين؟