ولما كان اليوم هو التسعون بعد المائتين للعدوان الإسرائيلي الغادر على قطاع غزة الصامد، ومع إطلالة يوم الإثنين، الثاني والعشرين من تموز، من العام ألفين وأربعة وعشرين ميلاديّ، والسادس عشر من محرّم، من العام ألف وأربعمائة وستة وأربعين هجريّ، وبعد أن ارتكب الجيش الإسرائيليّ ثلاث مجازر جديدة تخللها قصف جويّ، وتدمير العديد من المربعات السكنية على رؤوس ساكنيها، في حيَّي التفاح وتلّ الهوى بمدينة غزة، وقصف جويّ ومدفعيّ على مدينة خان يونس ومخيمها، وعلى بلدة بني سهيلا، وعلى مخيم الشابورة ومدينة رفح، وقصف جويّ وتدمير مربعات سكنية في مخيم البريج ومخيم النصيرات؛ حدّثتني آمال الأغا قالت: حدّثتني مها سلمان النواتي، ابنة غزة، عن فجيعة حرق والدتها المقعدة والمريضة، والتي تبلغ أربعة وتسعين عاماً؛ «نايفة رزق النواتي - السودة»، في بيتها؛ إثر إجبار الجيش الإسرائيلي أفراد عائلتها على تركها وحيدة، بعد احتلال بنايتهم، وطردهم من بيتهم.
كان ذلك أيها الجمهور «السعيد» ذو الرأي الرشيد؛ يوم الخميس، في الحادي والعشرين من آذار، من الشهر السادس للإبادة الجماعيّة لغزة الأبيّة، التي صعّد فيها جيش الاحتلال استهدافه لمقوّمات ومظاهر الحياة الإنسانيّة في محافظات غزة الشماليّة؛ دفعاً للناس إلى النزوح نحو محافظاتها الجنوبيّة.
روت مها تفاصيل ما حدث لعائلتها، والكلمات تخنقها، والدمع يفيض من عينيها. تحدَّثت عن اليوم الذي اجتاحت فيه الآليات العسكرية الإسرائيليّة مجمع الشفاء الطبيّ/ أكبر مستشفى مركزيّ، تحت غطاء ناريّ. هذا المجمّع الذي كان يحتضن بين جدرانه آلاف النازحات والنازحين، بالإضافة إلى الأطقم الطبية والجرحى والمرضى المتواجدين.
حاصرته الآليات من جميع الجهات، وعطّلت جميع الاتصالات، وأطلقت النار بكثافة على كل ما يتحرّك من كائنات، وصاحبتها طائرات مسيّرة حلّقت فوق مبانيه وباحاته الخارجية، ومهدت لدخول القوات الإسرائيليّة، من بوابات المجمّع الرئيسيّة. اعتقلت من النازحات والنازحين ثمانين، من بينهم صحافيون، واحتجزت المئات للتحقيق، وقصفت مبنى الجراحة المتخصِّصة، ودمّرت الأجهزة والمستلزمات الطبية، وأحرقت أقسام المجمع، وأخرجته بالكامل عن الخدمة. عرقلت وصول ممثلي المنظمات الدوليّة، والفرق الإغاثيّة، التي يمكن أن تساهم في إخلاء المرضى أو القيام بمهمات إنسانيّة، وأجبرت المئات على النزوح حفاة بالملابس الداخليّة.
روت مها سلمان النواتي كيف اقتحم أفراد الجيش البنايات المجاورة، ومنها البناية التي كانت تسكن فيها والدتها، مع شقيقاتها وأشقائها، والتي كان بها أربع وعشرون شقة، ويسكنها سبعون مواطناً.
جمعوا سكان البناية وكل من وجدوه فيها في شقتين، واحدة للرجال وأخرى للنساء، وقتلوا أثناء اقتحامهم الطابق الأخير منها العروسيْن الجديديْن، «آلاء معاوية النواتي»، ابنة أخيها التي جاءت من ألمانيا، وزوجها المقيم في غزة «محمد عبد الله حبوب». اعتقلوا كل الرجال، وجرّدوهم من ملابسهم، ورفعوا السلاح في وجوههم، وأجبروهم على التوجه إلى الجنوب مع نسائهم وأطفالهم.
ما الذي حدث مع نايفة رزق النواتي يا سادة يا كرام؟ وما الذي جعل أفراد أسرتها يتركونها في الشقة خلفهم، ولا يصطحبونها معهم رغم أنها لا تقوى على خدمة نفسها، ولا تميّز من حولها؟
روت ابنتها مها كيف أن زوجة أخيها أخبرت أفراد من جيش الاحتلال أنها تريد أن تصطحب والدة زوجها معها، لأنها لا تقوى على الحركة بمفردها، ولا أن تأكل أو تشرب أو تقضي حاجتها بنفسها، لكنهم زعموا أنها سوف تكون بأمان معهم ورفضوا طلبها.
ولما لم يبق أحد في البناية سوى الوالدة المريضة وجثماني المغدوريْن الشهيديْن، سأل أولادها عن مكانها، أو مصيرها، جميع من يعرفون من الجيران والأقارب، وموظفي مجمع الشفاء الطبيّ، خاصة قسم صيانة الأجهزة الطبيّة، حيث كان يعمل ابنها المهندس موفق.
كانوا يعرفون أنها لن تكون حيّة أو بخير؛ ما دامت في حماية أفراد الجيش، ولكنهم أرادوا أن يتأكدوا إذا كانت قواته قد ضاقت ذرعاً بها، وفي الشارع القريب رمتها، لتمشي فوقها دبابة، أو لتنهشها الكلاب الضالة الجائعة، أو إذا كانوا قد استخدموها درعاً بشرية ضمن عمليتهم العسكرية داخل مجمع الشفاء!
وبعد أسبوعين اثنين، لم تجد خلالها مناشدة أولاد نايفة للمؤسسات الحقوقيّة الدوليّة، والمنظمات الإنسانيّة، في مساعدتهم لمعرفة مصير والدتهم؛ وفي اليوم الأول من نيسان تحديداً، حين سمعوا بانسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من مجمع الشفاء الطبيّ، بعد أن أحرق مباني المجمع، والمباني المحيطة، وحين استطاع الابن موفق أن يدخل البناية المحروقة، وجد جثمان ابنة أخيه وجثمان زوجها، ووجد عظام جمجمة أمه ويديها ورجليها. دفن الجثمانين والعظام، وحمد ربه أن جنود الاحتلال لم يدفنوا أمه أو يرموها حيّة، واحتسبها عند الله شهيدة مع الشهيديْن ومع أكثر من ثلاثمائة شهيدة وشهيد، قتلوا داخل مجمع الشفاء، أو في محيطه، وووووووووووووووووو وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح!