- مراسلنا: ارتفاع عدد الشهداء إلى 5 جراء قصف طائرات الاحتلال مركبة للصحفيين أمام مستشفى العودة بمخيم النصيرات
- مستشفى العودة: قوات الاحتلال تفجر "روبوت" مفخخًا بجوار المشفى في تل الزعتر شمالي قطاع
سأظل أتذكر أشهر قصتين إعلاميتين تؤشران على ديماغوجية إعلام الألفية الثالثة، القصة الأولى كتبتُ عنهما كثيراً، ولكنني أستعيدها بمناسبة جفاف العواطف نحو مجازر غزة، القصة الأولى هي قصة الصحافي الجنوب إفريقي، كيفن كارتر، التي هزتْ مشاعر العالم أجمع، وأثارت غريزة الشفقة والرأفة على البشر ودفعت الدول إلى التأثير على صانعي المأساة السودانية.
كيفن كارتر المولود العام 1960 في جوهانسبرغ، هو من عائلة كانت تشارك في قتل واضطهاد وسجن وتعذيب سكان جنوب إفريقيا الأصليين، رأى بأم عينيه حرق رجل أسود لأنه اتهم بالتحرش الجنسي بامرأة بيضاء، دخل، كيفن كارتر الجيش وحاول أن يدافع عن صديقه الأسود المقهور، ولكن زملاءه البيض أوسعوه ضرباً لأنه حاول أن يدافع عنه، حينئذٍ قرر أن يترك الجيش ليصبح مصوراً إعلامياً.
ذهب إلى السودان العام 1993 ليغطي الحرب الأهلية السودانية ومآسي المجاعة فيها، فاقترب من مركز الأمم المتحدة لتوزيع الغذاء، حين شاهد طفلة صغيرة في الثالثة من عمرها تقريباً تزحف زحفاً للوصول إلى مركز توزيع الغذاء، فامتشق كاميرته الخاصة لتصويرها، وفي اللحظة نفسها حطَّ نسر ضخم من السماء وشرع في الوصول للفتاة ليتغذى عليها، انتظر كيفن عشرين دقيقة ولم يحاول أن ينقذ الطفلة، لأن هناك تعليمات طبية تحظر لمس أجساد السودانيين لمنع انتقال الأمراض، أخيراً التقط الصورة، ولم يكن يعلم قيمة هذه الصورة، ثم قام بطرد النسر الجارح، بيعت صورته الشهيرة لصحيفة نيويورك تايمز، ثم انتشرت عالمياً، حصل كيفن كارتر على جائزة بوليتزر عن هذه الصورة، وكان مفروضاً أن يكون سعيداً، غير أن كثيرين علقوا على هذه الصورة بشكل سلبي ما أثَّر على نفسيته، وأبرزها تعليق أحد القارئين حين كتب يقول: هناك نسران، وليس نسراً واحداً كانا يطاردان الطفلة!
أخيراً انتحر كيفن كارتر بعادم سيارته وكتب يقول: «أنا أسفٌ، أنا مكتئب، تطاردني قصص الأطفال الجوعى، إن ألم الحياة أشدُّ قسوة من كل لحظات الفرح».
أما القصة الثانية التي حرضت العالم ضد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين حين أعطى الأوامر بتفجير حقول الغاز، هذه الصورة جلبت أنصاراً كثيرين لمشاركة أميركا في الاستعداد للإطاحة بصدام حسين وتدمير العراق، كما أنها أثارت تعاطف الجماهير مع هذه الصورة، نشرت وكالات الأنباء العالمية صور الدخان الأسود في كل المنطقة باعتباره كارثة عالمية، وبسرعة البرق شُكلت فرق الإطفاء بوساطة شركات عالمية كبرى تحركت لإطفاء الحرائق، جندتْ وسائل الإعلام مصورين وإعلاميين محترفين قاموا بتضخيم الحدث، وجعله كارثة عالمية كبيرة، وإمعانا في إثارة العواطف نشرت وكالات الأنباء صوراً من أرشيفاتهم الإعلامية وليس صوراً حديثة التقطتها كاميرات الإعلام في حرب الخليج، الصورة لطائر البط المغموس بالنفط وهو لا يستطيع فرد جناحيه ليطير بسبب ثقل النفط وألصقوها تكنولوجياً وكأنها صورة حديثة على شاطئ الخليج العربي لإثارة الحمية وإقناع العالم بأن الخطر سيطالهم قريباً!
استحضرت الصورتين كمؤشر على عصر إعلامي جديد، عصرٍ يحتكره إعلامُ التضليل بالكامل، ويهيمن على كل أبواقه، إعلام خطير يقوده مسيرون خطرون، يخططون به لعصر إبادة جديد، يهدف لتقليل أعداد البشر، الخطط الجديدة لهذا الإعلام هي حروبٌ صامتة هدفها تقليل سكان العالم وتغيير الجغرافيا السياسية والاقتصادية، وهي أبشع بكثير من حروب القرون الماضية.
أما في غزة فإن معظم وسائل الإعلام المهيمنة على الساحة تضامنت جميعها لتحقيق هدف واحد وهو جعل غزة عدواً لدوداً للعالم بأسره، وجعلتهم يرون غزة بكاملها مدينة إرهابية، واختصرتها في الصورة الإعلامية المركزية الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر، ظلت وسائل الإعلام تختصر غزة في الحدث السالف نفسه، ولكي تكمل الصورة، صورة المعتدي القاتل فإنها أوحت إلى إعلامييها بأن يركزوا تركيزاً مبرمجاً على مقاومة غزة وانتصاراتها على الدبابات والمدرعات، وأن يقيسوا الأحداث بعدد صفارات الإنذار وعدد الصواريخ، وعلى كل وسائل الإعلام أن تلتزم بتصوير غزة وكأنها تقف على أبواب النصر النهائي، وقد وصل الأمر إلى أن كثيرين من الملحدين عادوا يؤمنون بوعد الآخرة.
للأسف شاركت أحزاب المقاومة في هذا المسار وقادت غزة إلى هذه المؤامرة الخطيرة دون حساب لنتائجها، ظلت تلك الأحزاب أسيرة لهذه الخطة، وهي إبراز غزة بأنها المنتصر، بصرف النظر عن المجازر والدمار والنزوح والجوع، وإمعاناً في ترسيخ ظاهرة النصر الكبير، فتح الإعلام المضلل أبواقه لزعماء الأحزاب المغردين من الخارج ليتولوا ترسيخ ظاهرة الانتصار الكبير، ولعل أهم نقطة في هذا كله، هو إسدال الستائر على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الواقع على الفلسطينيين في غزة والضفة، بحيث أصبح معظم المضللين يظنون أن تلك التضحيات ستكون هي فقط مقدمة الانتصار الكبير، وكذلك لإرغام العالم على غض الطرف عن جرائم الإبادة الجماعية باعتبارها (تكتيكاً) وضرورة حتمية وضريبة أساسية للانتصار الحلمي المرتقب، هذا التضليل المبرمج والممنهج سبَّبَ جفاف عواطف الرأفة والعطف على مئات آلاف الضحايا الأبرياء، ولم تعد أشلاء آلاف ضحايا أطفال غزة سوى صورة عادية جداً، وهذا بالتأكيد أنتج جفاف عواطف العالم، ووصل هذا الجفاف حتى لأقارب وأهالي المنكوبين في غزة! فبعد أن كان قتل طفل صغير يثير العالم، أصبحت إبادة مائة طفل من العائلة لا تثير أحداً، بمن فيهم كثيرون من المحللين والمعلقين والخبراء ومالكو وسائل الإعلام.