نشر بتاريخ: 2025/10/23 ( آخر تحديث: 2025/10/23 الساعة: 11:40 )
حسن عصفور

لا بلاد لي إلا غزة

نشر بتاريخ: 2025/10/23 (آخر تحديث: 2025/10/23 الساعة: 11:40)

بعد عامين من هذه الحرب التي لم تغادر بعد وإن ظن العالم أنها قد توقفت، وبعد عام ونيف من مغادرتي أرضَ المقتلة وحيث ألقت بي سفينة الحياة على شاطئ الاغتراب، وقررت أن أعيش جسدا وأبقى روحا حيث المربى والمنبت، ولم أترك غزة فعليا ولم تغادرني حتى في نومي، وكان الحلم الذي يتكرر في مناماتي كثيرا أنني أحاول الهروب من القصف ولا أفلح، يحدث ذلك كثيرا واستيقظ وليس لدي قدرة على تحديد مكاني، ربما فسر أطباء النفس أن ما أمر به هو حالة نفسية سوف أجد صعوبة في نطق مسماها، لكنها الحقيقة التي تحدث معي وحيث أقف صباحا في الشرفة واحتاج بعض الوقت لا يتجاوز الدقيقة ولكن كل ثانية تكون موجعة حتى استطيع أن استوعب أنني بعيدة عنها.

يطاردني حلم الهروب كل ليلة واعتقد أنني لا أزال هناك ولا ينقذني إلا السرير الخشبي الذي أتمسك بقائمته وتلوح مني نظرة نصف مغمضة لظل مرآة على الحائط وأتذكر الأيام الأخيرة في مدينة رفح وحيث كنا ننام على الأرض العارية ولم يكن يحيط بي إلا جدران واهية وتصم أذنيّ أصوات القصف من بعيد.

كنت سعيدة الحظ حيث لم أمضِ الكثير من الأيام في الخيمة لكن النوم على البلاط البارد يشبه النوم في ثلاجة موتى، لذلك حين استيقظ في صباحاتي هنا أعرف أن كل ما مرّ بي كان حلما، وأتشبث بأصابع مرتجفة بالستارة المتدلية وأعض على شفتي السفلى بأسناني بكل قوة وأنا أسأل نفسي السؤال الذي لا أجد له إجابة وهو: متى سأعود ومتى ستعود؟

الأسبوع الماضي، قررت زيارة مدينة الإسكندرية من أجل حضور فعالية ثقافية خاطفة في مكتبتها العريقة، وهكذا كنت أذهب صوب البحر للمرة الأولى بعد عامين وحين أصبحت أرى ماءه بكيت وغطيت وجهي لأخفي دموعي لأن بحرها ذكرني ببحر مدينة غزة ولم يكن يبعدني عنه سوى مسافة قصيرة ويمكنني أن أصله سيرا على قدمي لو اجتهدت، أما أن تصل إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط هنا فأنت تحتاج إلى رحلة سفر بالقطار تقارب الثلاث الساعات وتزيد إلى الضعف لو اخترت السفر بوسيلة مواصلات أخرى.

بعد أن أصبحت قبالة الماء الرقراق وحيث لفحني هواء البحر المنعش قلت لابنتي في حسرة: تخيلي لو هناك سفينة تظهر فجأة وتحملنا وتبحر بنا حتى نجد انفسنا على شاطئ غزة بالقرب من الميناء أو على شاطئ دير البلح، أو حتى على شاطئ مدينة خان يونس وحيث منطقة المواصي ذات الأرض الخصبة والتي لم تعد ترمز، اليوم، إلا للبؤس والتشرد واختفى لونها الأخضر.

قلت لابنتي: إنني أتمنى أن يتحقق هذا الحلم واجد نفسي فعلا أمام البحر الهادئ والحياة الوادعة التي ودعها أهل غزة منذ عامين وحاولت وأنا أكرر أمنيتي أن أتشاغل بمنظر أطفال يلهون على الشاطئ وزوجين يتناقشان همسا بالقرب منهما، ويبدو من طريقة حديثهما انهما متفقان في أشياء كثيرة وان ما أراه هو عائلة صغيرة متحابة تشعر أولا بالأمان في بلادها وهذه أكبر نعمة أن تكون في بلدك آمنا ولا تخاف أن تطرد أو تقتل على أرضها.

ابتسمت للصغار الذين قذفوا الكرة نحوي وتذكرت أطفال غزة البائسين وفرت دمعة مستجدة من عيني وتذكرت أيامي الجميلة مع أطفالي على الشاطئ والذكريات التي جمعتنا بالأحبة والأقارب هناك وحاولت أن أتذكر آخر مرة كنت أمام بحر غزة قبل أن تضرب هذه المقتلة بكل وحشيتها المدينة وبحرها وارضها.

اكتشفت أن لا سعادة تنبع من داخل قلبي وأنا أجلس قبالة البحر نفسه، نبهتني ابنتي أن البحر واحد ولكن الهواء أو الأرض أو ماذا، ما الذي تغير بحيث لا أشعر بمشاعر أعرفها وافتقدها هنا وكانت حين تدب في قلبي وروحي هناك تنعشني وتجدد نشاطي وحيويتي وتبث الأمل بيوم قادم أجمل من سابقه، لكن ذلك اليوم لم يأتِ ولم يمرّ على غزة إلا أسوأ الأيام.

هنا تقتلني غربة اكتشفها كلما لمحت غزة في أشياء كثيرة، بلهجة أهلها وشاطئ مدينة الإسكندرية، ولقاء ببعض الأصدقاء والأحبة الذين يعانون مثلي ويقتلهم الشوق مثلي ويكتشفون كل يوم أن لا بلاد لهم إلا غزة.