الحرب النفسية في زمن الإعلام الرقمي: إدارة العقول قبل الميادين

علي أبو حبلة
الحرب النفسية في زمن الإعلام الرقمي: إدارة العقول قبل الميادين
الكوفية مقدمة.. حين تتحول الكلمة إلى سلاح
لم تعد الحروب الحديثة تُخاض فقط على الأرض أو في الجو، بل باتت ساحتها الأولى عقول الناس ووجدانهم. فالمعارك اليوم تبدأ بالمعلومة قبل الرصاصة، وبالرسالة الموجَّهة قبل القذيفة.
إنها الحرب النفسية، أحد أخطر أشكال الصراع في العصر الرقمي، إذ تُخاض بلا جيوش ظاهرة، وتستهدف السيطرة على الإدراك الجماعي وتشكيل المواقف والسلوك العام بما يخدم أهداف الجهة الموجِّهة.
ماهية الحرب النفسية وأهدافها
يُعرّف الخبراء الحرب النفسية بأنها استخدام منظم ومخطط لوسائل التأثير المعنوي والإعلامي والنفسي لتغيير الاتجاهات والمعتقدات والسلوكيات لدى الخصم، وصولًا إلى إنهاك إرادته دون خوض مواجهة مباشرة.
تسعى هذه الحرب إلى زرع الشك، وبث الخوف، وإضعاف الثقة بالمؤسسات الوطنية، وتشويه صورة القيادة، وتقويض الروح المعنوية للمجتمع.
وفي عالم متخم بالمعلومات والأخبار المتسارعة، أصبح التفريق بين الحقيقة والتضليل أكثر صعوبة، ما يجعل من الحرب النفسية أداة فعالة لتوجيه الرأي العام دون أن يدرك المتلقي أنه مستهدف.
أدوات وأساليب الحرب النفسية
تتخذ الحرب النفسية أشكالًا متعددة تتطور بتطور التكنولوجيا، ومن أبرز أدواتها
1. الكلمة والإعلام: من خلال المقالات والمنشورات والبرامج والتصريحات التي تُقدَّم في إطار يبدو موضوعيًا أو ثقافيًا لكنها تحمل رسائل سياسية خفية.
2. الشائعات: وهي أكثر الأساليب شيوعًا وخطورة، إذ تُبنى على نصف حقيقة وتنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل، فتُحدث ارتباكًا واسعًا.
3. التهديد والاستعراض العسكري: كإجراء مناورات أو تسريبات إعلامية تهدف لبث الرعب في صفوف الخصم.
4. الخداع والإيهام: عبر تمرير معلومات مضللة لإرباك متخذ القرار أو توجيه الرأي العام.
5. الإغراء والوعد: باستخدام لغة ناعمة تدعو إلى "التهدئة" أو "الواقعية السياسية"، بينما تُراد بها أهداف معاكسة.
6. بث الذعر الجماعي: باستغلال الحوادث أو الكوارث لتأليب الجمهور ونشر الخوف وفقدان الأمل.
ألوان الدعاية: الأبيض والرمادي والأسود
تنقسم الدعاية، وهي العمود الفقري للحرب النفسية، إلى ثلاثة أنماط رئيسية:
الدعاية البيضاء: معلومة المصدر، صريحة وواضحة، تُقدَّم من خلال القنوات الرسمية.
الدعاية السوداء: مجهولة المصدر، تُبث عبر حسابات وصفحات وهمية أو جهات غير معلنة، وهدفها تشويه الحقائق ونشر البلبلة.
الدعاية الرمادية: وهي الأخطر، لأنها تُقدَّم في ثوبٍ محايد أو ثقافي أو إنساني، لكنها تحمل مضمونًا سياسيًا خفيًا يوجّه المتلقي دون أن يشعر.
ويُجمع المتخصصون على أن الدعاية الرمادية هي الأكثر تأثيرًا، لأنها تتسلل إلى العقل والوجدان دون مقاومة، وتُقنع الناس بأنهم يفكرون بحرية بينما تُوجَّه آراؤهم بخفاء.
منصات التواصل الاجتماعي: الميدان الجديد للحرب النفسية
أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي البيئة المثالية للحرب النفسية المعاصرة. فالمعلومة تنتشر في ثوانٍ، والمصدر غالبًا مجهول، والخوارزميات تُعيد توجيه المحتوى وفق ميول المستخدمين، ما يجعل التضليل أكثر فاعلية من أي وقت مضى.
تُستخدم هذه المنصات اليوم لتضخيم الشائعات، وتحريك الرأي العام، وبث الإحباط واليأس في صفوف الشعوب، خصوصًا في مناطق الصراع.
وفي الحالة الفلسطينية، يوظف الاحتلال الإسرائيلي هذا الفضاء لنشر روايات مضللة تُضعف الثقة بالنفس وتُشجع على الانقسام، ضمن استراتيجية تستهدف الوعي الجمعي قبل استهداف الأرض.
إسرائيل نموذجًا في الحرب النفسية
تاريخيًا، شكّلت الحرب النفسية أحد ركائز العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
منذ قيامها، اعتمدت إسرائيل على الدعاية والإعلام لإظهار نفسها كقوة لا تُقهر، ولتلميع صورتها أمام الغرب، مقابل تشويه صورة الفلسطيني والعربي في الوعي الدولي.
أما اليوم، فقد انتقلت الحرب إلى الفضاء الرقمي، عبر جيوش إلكترونية تعمل على مدار الساعة لنشر محتوى رمادي موجَّه للجمهور الفلسطيني والعربي، يهدف إلى:
زرع الإحباط من جدوى المقاومة.
الترويج للتطبيع باعتباره “سلامًا واقعيًا”.
تضخيم الخلافات الداخلية.
بث الشك في قدرة الفلسطينيين على الصمود أو تحقيق الوحدة.
مخاطر الانزلاق في فخ الدعاية الرمادية
تكمن خطورة الدعاية الرمادية في قدرتها على اختراق الوعي دون أن تُكتشف.
فقد تأتي عبر عمل فني، أو حملة إنسانية، أو محتوى ترفيهي، لكنها تُعيد تشكيل الموقف الوطني بطريقة ناعمة وغير مباشرة.
ومجتمعاتنا، المثقلة بالأزمات الاقتصادية والانقسامات السياسية، تُعد بيئة خصبة لتلك الحملات التي تستغل نقاط الضعف النفسية والاجتماعية لتفكيك الثقة بين المواطن ومؤسساته.
استراتيجية المواجهة: بناء المناعة المعرفية والمجتمعية
لا يمكن مواجهة الحرب النفسية بالشعارات، بل تتطلب خطة وطنية شاملة تشترك فيها الدولة والإعلام والمجتمع المدني.
وتقوم هذه المواجهة على:
1. الشفافية والمصارحة في نقل المعلومة، لمنع انتشار الشائعات.
2. إنشاء وحدات للرصد والتدقيق تتولى تحليل الأخبار الزائفة والرد عليها فورًا.
3. تعزيز الثقة بالإعلام الوطني عبر الالتزام بالموضوعية والمهنية.
4. تثقيف الجمهور بأساليب التحقق من المعلومات وعدم الانجرار خلف المحتوى العاطفي.
5. تدريب الصحفيين والناشطين على رصد الحملات الدعائية المعادية وتحليلها بوعي ومسؤولية.
6. تفعيل الشراكة بين المؤسسات الرسمية والأكاديمية والإعلامية لمتابعة التطورات في ميدان الحرب النفسية
خاتمة: الوعي هو السلاح الأقوى
الحرب النفسية لا تُخاض بالمدافع، بل بالكلمة والصورة والمعلومة، وهي أخطر لأنها تستهدف وعي الإنسان وقراره.
وانتصار الشعوب في هذا النوع من الصراع لا يتحقق إلا بالوعي والإدراك، وبالثقة بالنفس والوحدة الوطنية.
إن أخطر ما يمكن أن يصيب أي مجتمع هو فقدان الوعي الجمعي، لأن العدو حين ينجح في تزييف الحقيقة يربح المعركة قبل أن تبدأ.
ولذلك، فإن بناء المناعة الفكرية والإعلامية لم يعد ترفًا، بل ضرورة لحماية الوعي الوطني، لأن العقول اليوم هي الميدان الحقيقي للحرب، والوعي هو السلاح الذي لا يُهزم.