هندسة الفوضى وخطر تفكيك المجتمع الفلسطيني

بن معمر الحاج عيسى
هندسة الفوضى وخطر تفكيك المجتمع الفلسطيني
الكوفية منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت غزة واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخها، حيث خلّف العدوان الإسرائيلي عشرات آلاف الشهداء، أغلبهم من الأطفال والنساء، ودمّر البنية التحتية المدنية بشكل شبه كامل، تاركًا القطاع أمام انهيار إنساني واجتماعي واقتصادي غير مسبوق. غير أن الاحتلال الإسرائيلي، وبعد عجزه عن القضاء على المقاومة عسكريًا، انتقل إلى طور أخطر يقوم على محاولة تسليح ميليشيات محلية تدين له بالولاء، ليحوّل المأساة الإنسانية إلى منصة لإعادة تشكيل المشهد الفلسطيني بما يخدم استراتيجيته الاستعمارية طويلة الأمد. وفق تقرير صادر عن منظمة حشد الحقوقية.
هذا المسعى الذي تجسّد في ظهور ميليشيا يقودها "ياسر أبو شباب" شرق رفح، لم يكن مجرد محاولة عابرة، بل يمثل– وفق توصيف محللين– "مقامرة خطيرة" قد تفجر المجتمع من الداخل. تقرير لموقع إرم نيوز وصف المشروع بأنه مقامرة على حساب النسيج الاجتماعي الفلسطيني، معتبرًا أن الاحتلال يحاول نقل المعركة من صيغة "شعب ضد احتلال" إلى صيغة "فلسطيني ضد فلسطيني"، عبر خلق كيانات مسلحة موازية للمقاومة الشرعية. ويضيف التقرير أن "إسرائيل تعلم أنها فشلت عسكريًا، فذهبت لتجربة أدوات أكثر خبثًا عبر صناعة وكلاء محليين يكرّسون الفوضى بدلًا من المقاومة".
المحلل السياسي الفلسطيني مصطفى الصواف أكد أن الاحتلال يوظّف سياسة "فرّق تسد" الكلاسيكية، لكن في ظرف إنساني غير مسبوق يجعل المجتمع أكثر هشاشة. وقال: "إسرائيل لا تريد أن تدير غزة مباشرة، بل تسعى لخلق قوة محلية بديلة تعمل كذراع لها، بحيث تضمن السيطرة دون أن تدفع الثمن"، مشددًا على أن هذه المحاولات ستفشل إذا أدرك المجتمع خطورتها وقاطعها اجتماعيًا.
أما الخبير الحقوقي أنور الغول، فقد اعتبر أن تسليح الميليشيات يشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، لأنه ينطوي على "هندسة للفوضى" وتهديد للأمن والسلم الأهلي. وأضاف: "القانون الدولي يُلزم قوة الاحتلال بإدارة حياة السكان تحت سيطرتها وحمايتهم، بينما ما تقوم به إسرائيل هو العكس تمامًا: خلق ميليشيات مسلحة لاستخدامها ضد أبناء الشعب نفسه، وهذا يعد جريمة مضاعفة تتجاوز مفهوم الاحتلال التقليدي إلى الاستعمار عبر الوكلاء".
وفي تحليل آخر نشرته صحيفة الشرق الأوسط، يرى مراقبون أن حكومة نتنياهو تحاول عبر هذه الخطة تطبيق معادلة "لا حماسستان ولا فتحستان"، أي منع أي طرف فلسطيني شرعي من إدارة غزة، وفرض بدائل مصطنعة مرتبطة مباشرة بجهاز الشاباك. ويشير المقال إلى أن هذا التوجه ينسجم مع عقيدة نتنياهو الأمنية التي تسعى إلى إدامة الانقسام الفلسطيني ومنع أي وحدة سياسية قد تعزز الموقف الفلسطيني أمام العالم.
لكن أخطر ما في هذه السياسة، وفق الخبير في شؤون الحركات المسلحة عبد الناصر فروانة، هو أثرها الاجتماعي: "الميليشيات لا تهدد الفصائل وحدها، بل تهدد النسيج المجتمعي بأسره. فهي تُدخل السلاح في قلب الصراعات العائلية والقبلية، وتحوّل المقاومة من مشروع تحرر وطني إلى نزاع داخلي، وهو ما قد يؤدي إلى تفكك المجتمع من الداخل"، مؤكدًا أن هذه السياسة تهدف إلى صناعة "غزة جديدة" منفصلة عن مشروع التحرر الوطني.
في المقابل، يؤكد حقوقيون أن المجتمع الغزي قادر على إفشال هذا المخطط إذا ما توفرت أدوات الصمود: من الوعي الشعبي والمقاطعة الاجتماعية لأي جماعات مشبوهة، إلى توحيد القيادة السياسية، وتحريك الجهود الدبلوماسية لفضح هذه السياسات على الساحة الدولية. ووفق تقرير نشره بي بي سي عربي، فإن أصواتًا حقوقية فلسطينية اعتبرت أن أي ميليشيات مرتبطة بالاحتلال ستُواجَه بالرفض الشعبي، خاصة أن الوعي الجمعي الفلسطيني يدرك تمامًا أن هذه الكيانات ليست سوى نسخة جديدة من الاحتلال بأقنعة محلية.
إن خطورة مشروع الميليشيات لا تنحصر في غزة وحدها، بل قد تمتد – كما يحذر خبراء – إلى مناطق عربية أخرى، إذا ما نجحت إسرائيل في فرضه كأنموذج جديد لإدارة المناطق المحتلة. ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة لبناء بدائل وطنية واضحة، تبدأ بتوحيد المرجعية السياسية الفلسطينية، وإعادة بناء المؤسسات المدنية والأمنية الشرعية، وتعزيز السلم الأهلي عبر لجان الإصلاح العشائرية، وتفعيل دور المجتمع المدني في نشر ثقافة الحماية والتماسك.
ختامًا، لا يمكن قراءة محاولات الاحتلال لتسليح الميليشيات إلا كجزء من مشروع استعماري طويل الأمد يهدف إلى تصفية المقاومة وتحويل المجتمع الفلسطيني إلى ساحة فوضى دائمة. لكن، وكما يشير الباحث الحقوقي أيمن السقا: "رهان الاحتلال على الانقسام والميليشيات رهان خاسر، لأن التاريخ الفلسطيني أثبت أن وعي المجتمع وصموده كان دائمًا أقوى من كل أدوات الاحتلال، وأن غزة التي صمدت أمام القصف والجوع، قادرة على أن تُفشل أيضًا ميليشيات الفوضى".