لم يصل عدد الشاحنات التي تمكنت من دخول غزة إلى المئة، بعد مرور ثمانية وسبعين يوماً حال الاحتلال دون دخول أي شاحنة، من بين الشاحنات الداخلة مرت شاحنتان محملتان بالأكفان، لقد نفدت الأكفان من المخازن ولم ينتهِ الجيش من استنفاد مهمته.
سيذكر التاريخ مشهد الأطباق الفارغة تزدحم أمام التكيات والمطابخ المجتمعية، في واحد من المشاهد المتكررة في يوميات الحرب الهمجية على قطاع غزة، فالاحتلال مصمم عن سبق إصرار وتعمد على دفع غزة إلى حافة الموت، في طقوس تقويض الحياة البشرية ومضاعفة تفاقم الأزمة الإنسانية المتردية أصلاً، بينما يواظب جيشه على قصف مخازن الأغذية والمطابخ لأن الشعار الرئيس المرفوع من قبل قادة السياسة الإسرائيلية نحو التوحش المجنون: «لن تدخل حبة قمح واحدة».
التجويع سلاح سياسي وحربي قاتل، بطيء وموجع ومخيف. والمستهدفون في حرب التجويع ليسوا مئة، ليسوا خمسمائة أو ألفاً أو ألفين، هم مليونا إنسان خلع الاحتلال عنهم بشريتهم، هم الأطفال الذين في نظر الاحتلال ليسوا سوى أبناء الأفاعي، هن النساء اللواتي يلدن الأفاعي، وهم الرجال المستهدفون بامتياز، إنها الحياة الفلسطينية المُطاردة من قبل الاحتلال في زمن السقوط المدوي للأخلاق.. فالمؤسسة الصهيونية لا تتعامل مع الفلسطينيين كبشر، بل محكومة برؤيا وخطاب يتوخى نزع إنسانيتهم عنهم.
المجاعة الشاملة ليست خبراً عاجلاً عن موت مستعجل، بل سردية طويلة نوعا ما عن الموت على دفعات، يبدأ كلسعة تنذر باقتراب جدران الجسد من بعضها البعض نحو التصاقها، وتنتهي بهجرتها تاركة خلفها بقايا إنسان ينتظر الشهقة الأخيرة، وتسجيل ما تبقى منه من عِظام بأنها كانت ذات يوم جسداً مكتملاً يحمل أحلاما وأمنيات لم يكن مقرراً له أن يتحول إلى بقايا جسد بلا أمل.
المجاعة تترك خلفها بقايا عيون مفتوحة على حزن وعتاب، تسجل جريمة لم يشهدها التاريخ القديم والحديث، وحملها أحلاما انتهت قبل أن تبدأ.. ذكرى جسد ناضل حتى النهاية في اعتصار سوائله ليتغذى على نفسه، ومواجهة نوبات الجوع وتجميعها في نوبة واحدة لمقاومتهما، شهادة حسية عن ذوبان الجسد والأحلام والآمال والزهد، حتى الموت.
سيسجل الفلسطينيون سوابقهم الخاصة في حرب السعرات الحرارية على الشعب الفلسطيني في غزة، التجويع القسري والطوعي، فقد نفذ الأسرى على جدارية نضالهم الطويل قرار الجوع بإرادة ذاتية في سبيل الحرية، ذهبوا إلى تذويب أجسادهم من أجل تحصيل حقوقهم وحريتهم وفك قيود الاعتقال الإداري، بينما لجأت إدارة السجون إلى قمع إضرابهم بالقوة لكسره وإطعامهم بالقوة.
التجويع في غزة سلاح سياسي وحربي يندرج في إطار حرب الإبادة بجميع الأشكال والأدوات، يُوظف من قبل المؤسسة الصهيونية من أجل كسر إرادة قطاع غزة وحبها للحياة وحقها بها، رغم كل ما تهمس لهم به أمعاؤهم بأنها قد تعبت من التصاق جدرانها ببعضها، ومن نوبات الجوع المتتالية المصحوبة بالصداع والدُوار ومطالبة قلوبهم لعقولهم بالزهد بالحياة وتركها في حالها بلا أسف على حياة تشبه الموت، توشوش لهم، ليل نهار، ألا شيء يستحق الحياة، لا النزوح ولا الجوع ولا تجرع الحزن اليومي يستحق المجازفة، فقد الأهل والجيران وجدران البيت لا يستحق البقاء، ولا شيء يستحق الأثمان الباهظة التي يتم دفعها، سوى إرادة غزة بالحياة.
أهل قطاع غزة، اليوم، وهم يجلسون على حافة الموت، يضعون العالم تحت الاختبار، وباتت البوصلة الأخلاقية للعالم العربي والغربي قيْد الفحص، وليس أمام العالم سوى خيارين اثنين: إما الانتصار لغزة والخروج من امتحانها بنجاح وعدم الصمت عما يجري من انتهاكات ومجازر مرعبة، وإما خذلان غزة والسقوط المريع في امتحانها الصعب.