قناة الكوفية الفضائية

إبادة سردية النكبة

18 مايو 2025 - 18:12
ريما كتانة نزال

منذ العام 1948، لم تكتفِ إسرائيل بتهجير الفلسطينيين واحتلال الأرض وجعلها غير قابلة للحياة من أجل مواصلة التهجير والمطاردة والسيطرة والقضم التدريجي، بل في الآونة الأخيرة بدأت في توسيع حربها الاستعمارية مع الفلسطينيين نحو الخلاص الاستراتيجي منهم بالحسم العسكري لإبادة السكان واغتيال تاريخ السردية، اغتيال كل من يسجلها ويوثقها وإحراق الأدلة: اغتيال المخيم كعنوان وشاهد عبر التخلص من وكالة غوث اللاجئين «الأونروا» والقرارات الدولية ذات الصلة كشهود أحياء على النكبة والاحتلال، استهداف الرواة: الصحافيين والصحافيات والشهود على الحقيقة بكل تجلياتها وأشكالها وألوانها الكاشفة عن الجرائم المتناسلة بالصوت والصورة، ومُطاردة الفلسطينيين بالطائرات والمسيرَّات، في المدارس والجامعات والشوارع، لتصبح غزة مقبرة مفتوحة للرواية.

في الحرب الأخيرة على غزة، لقد اغتال الاحتلال أكثر من مئتين وعشرة صحافيين وصحافيات، قتلاً وحرقاً، في البيوت والخيام والسيارات والشوارع، ودمر المكتبات وقتل الأطباء والمسعفين والممرضين وجميعهم من الشهود والرواة للحقيقة، لكن الرواية باقية بسبب فداحة حجم الجريمة المرتكبة، وطوفان الدماء يدين كل من وقف متفرجاً وصامتاً ومتواطئاً، من أجل كي الوعي الفلسطيني، الفردي والجمعي، فأصبحت الرواية الفلسطينية موضع الاهتمام الرئيس بعد حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي من أجل اقتلاعها من جذورها التاريخية واستهداف جميع الفلسطينيين.

لم يخطئ الرصاص الصحافيين، فقد كانوا يحملون شاراتهم على صدورهم ورؤوسهم بوضوح..جميع عمليات الاغتيال ثبت أنها تمت عن سبق ترصد وتعمد؛ تحت عين الكاميرا، لإسكات صوت فلسطين المجلجل الذي استطاع رغم سياسة الخنْق إيصال الرواية للعالم، ويعود للصورة الفضل في إعادة تلميع السردية وفي تغيير الصورة التي حاول الاحتلال تزييفها وقلبها في العالم، كما يعود لها الفضل في إخراج الجماهير إلى الشوارع لإبداء تضامنها مع الفلسطينيين والمطالبة بوقف حرب جريمة الإبادة، ولا شك بأنه يعود لها وخلفها من وثقها الفضل والتسبب في عقد محكمتي العدل والجنايات وتوجيه أصابع الاتهام لمن ارتكبها.

لكن، ما يُثير القلق والخوف أن الاحتلال ينتهك القانون الدولي منفذاً جرائمه وعمليات الاغتيال للسردية وشهودها ووصولها إلى مستوى غير مسبوق ضد الإنسانية والحرية والتاريخ، بينما العالم لم يصل إلى المستوى الذي يتمكن من وقفه والتصدي لما يجري للمؤسسات الدولية العاملة وعدم فرضها دخول الصحافة العالمية إلى غزة كما تجري العادة في جميع أرجاء العالم لحماية الصحافيين الفلسطينيين، كما لم يضغط بشكل كافٍ لوقف مهزلة دخول الغذاء والدواء، ولم يقم بما عليه لوقف اغتيال شواهد النكبة، «الأونروا» والمخيمات، في إطار سعيها لإخفاء وطمس الحقائق وفرض الوقائع البديلة على أنقاض اغتيال الكلمة وتزييف الحقائق وتوانٍ عن جلب المجرمين للعدالة الدولية.

أدوات النكبة تتكرر، التدمير والقتل والتهجير، لقد قامت إسرائيل بتهجير أكثر من تسعمائة ألف فلسطيني وفلسطينية إلى خارج البلاد، كما قامت بتشريد نصف مليون آخرين في بلادهم بعد تدمير خمسمائة وسبع وثلاثين قرية عربية، واليوم بينما العالم يغض الطرف عن تكرار نموذجها الخاص للنكبة الجديدة، عمليات التهجير والتشريد الصامت في الضفة الغربية، ونموذج حرب الإبادة والتدمير وتفريغ الأرض من الحياة في نموذجها المخصص لقطاع غزة، وهي مخططات لا تقوم بإخفائها على كل حال.

فلسطينياً، إعادة إحياء ذكرى النكبة بذات الأساليب والأدوات وفي ذات الموعد، بينما ما ينبغي القيام به يتركز على إيلاء سردية النكبة الاهتمام الدائم من بداية العام وحتى نهايته، القرى المدمرة والمهجورة واللاجئين والتشرد والتغريبة، والابتعاد بسردية النكبة الأولى عن الرزنامة الموسمية المتعلقة بالمناسبة واحتفالاتها النمطية التي تتحدث مع نفسها، في لحظة يحاصر فيها الشعب الفلسطيني وتتعرض قضيته ووجوده المادي بما فيها رموز نكبته وشواهدها للاغتيال الممنهج.

مقاومة اغتيال سردية النكبة وإحباطها بينما جيش الاحتلال بدأ بتنفيذ عملية عربات جدعون لاستكمال جريمة الإبادة الجماعية وهدفها الرئيس ممثلاً بالنزوح المتكرر وتمهيد البيئة لجعل التهجير ممكناً، يصبح الأمر يحتاج إلى، أولاً: إلى يقظة جمعية واستنفار وتأهب دائمين، يضع مسألة بعث الوعي بتاريخ النكبة ووقائعها والمجازر التي ارتكبت من أجل إبادة جزء من الشعب في مناطق 48 تمهيداً لتهجيرهم، يأخذ بالاعتبار ما وثقه المؤرخون وخاصة اليهود منهم حول المجازر المرتكبة للاستيلاء على الأرض، وثانياً: خطة فلسطينية لبعث الذاكرة والوعي في كيفية حصول النكبة الأولى وربطها بالمخططات الإبادية والتهجيرية القائمة حالياً، بالتجاور مع تجديد الخطط السياسية لاستيعاب المستجدات الراهنة بعد حرب الإبادة لإحباط تكريس سيناريوهات النكبة الجديدة ومواجهتها فلسطينياً في داخل الوطن وخارجة، بآليات وأدوات مختلفة عن المتعارف عليها؛ كونها دون مستوى التحديات والمخاطر، وثالثاً: مناهج دراسية تبعث الوعي للطلبة بتاريخ النكبة وتداعياتها دون خشية من مزاعم واتهامات المناهج الفلسطينية بالإرهاب، فالتاريخ والواقع يشهد على من مارس الإرهاب وجعل منه عملية يومية متواصلة، لقمع الشعب الفلسطيني عن المطالبة بحقوقه المشروعة.

Link: https://mail.alkofiya.com/post/270959