أوساط صهيونية متزايدة، بما فيها بعض الأوساط الموغلة في عنصريّتها، والتي اصطفّت بالكامل في صُلب المواقف الفاشية لم تعد ترى مخرجاً من الأزمة الداخلية الإسرائيلية دون انزواء بنيامين نتنياهو، ودون الاختفاء عن المشهد السياسي كلّه.
قبل مناقشة طرح كهذا، وسيناريو كهذا أو احتمال دعونا ندقّق قليلاً في دلالة طرحه في سوق التداول الإسرائيلية، أو بالأحرى إعادة طرحه من جديد.
كما نعرف فقد طُرح سيناريو كهذا قبل الآن «كحلّ» قابل للتحوّل إلى مخرج من أزمة التعديلات القضائية.
ومع أنه لا تُعرف حتى الآن حقيقة السبب الذي «أفشل» هذا المخرج، ولا تُعرف على وجه الدقّة الشروط التفصيلية التي حالت دون أن يرى مثل هذا الاقتراح النور، ودون أن يشقّ طريقه نحو الحلّ، إلّا أنّ المؤكّد هنا أنّ هذا الاقتراح قد فقد آلية الدفع والاندفاع تحت ضغوط من حزب «الليكود» نفسه، والذي اعتبر أنّ القبول بمبدأ المساومة كان سيعني حتماً الإقرار بفشل «خطّة الإصلاح القضائي»، والإقرار الضمني بأنّ نتنياهو كان في طريقه إلى البيت، أو إلى السجن أو إلى كليهما، ولكن بالتتالي.
يُعاد طرح هذا الاقتراح في هذه الأيّام مع فارقين هائلين على هذا الصعيد: الأوّل، هو الحرب، من حيث واقع ما كانت عليه أمور الحالة الإسرائيلية، ومن حيث المسؤولية عن «وقوعها»، والمسؤولية عمّا أدّت إليه، ومسؤولية تحديد أهدافها، ومسؤولية حقيقة ما أدّت إليه، وما انطوت عليه من خسائر، وحقيقة ما ستُفضي إليه من نتائج.
والثاني، هو الشوط الذي قطعه «الانقلاب القضائي» من جهة، و»التطهير» الذي تمّ على يدي نتنياهو داخل مؤسّسات الجيش، وداخل مؤسّسات الأمن، ومجالات لم تستكمل بعد في صفوف القضاء نفسه.. ومع هذين الفرقين الهائلين يطرح سؤال أكثر من وجيه حول هذا الاقتراح مع وجود الفارق النوعي الكبير بين الاقتراحين في ظرفين مختلفين، وزمنين مختلفين.
ألا تطرح إعادة طرح هذا الاقتراح ألف علامة سؤال حول حقيقة «الانتصار» الذي يتحدّث عنه «الليكود»، و»الائتلاف الفاشي الحاكم» في الدولة الصهيونية؟ ثم ألا تطرح ألف علامة سؤال أخرى حول مدى ما وصلت إليه الأزمة الداخلية الإسرائيلية وما بلغته من عمق تجاوز كل أنواع الخطر؟
أن يُصار إلى إعادة طرح الاقتراح بالتنحّي والاختفاء في هذا الظرف بالذات يعني مسألتين لا ثالث لهما فعلاً، وليس كقول شائع الاستخدام في التعبير.
فإمّا أن تكون بعض الأوساط العليا، وخاصة رئيس إسرائيل قد أحيط علماً، بصورة رسمية، أو بصورة غير رسمية أنّ رئيس الحكومة مقدم على مغامرة تفوق في شدّة خطورتها أيّ مغامرة سابقة، وأنّ هذه المغامرة تحمل في طيّاتها مجازفات تماثل الضربة الأخيرة للمقامر، والتي يلعب فيها بكل ما يملك، ويكون في نتيجتها إمّا الخسارة الكاملة، أو الربح الكامل الذي يعوّضه كلّ الخسائر السابقة.
وفي هذه الحالة فإنّ إعادة طرح الاقتراح في مثل هذه الظروف الدقيقة تصبح «منطقية»، بل وتصبح مفهومة، وربّما مقبولة من أوساط عليا أخرى، ومن أوساط أخرى عديدة.
وهنا قد تكون المسألة مرتبطة بـ»الضربة» التي تتحدّث عنها بعض الأوساط السياسية والأمنية والإعلامية الإسرائيلية لإيران، والتي تأتي حسب بعض المعطيات، وحسب بعض المراقبين في صُلب توجّه نتنياهو لإفشال المحادثات الإيرانية الأميركية، وخصوصاً بعد أن علمت دولة الاحتلال أن إيران رفضت رفضاً كاملاً وباتاً أن تتم مناقشة أيّ مسألة خارج إطار البرنامج النووي، بما في ذلك برامج الصواريخ، وعلاقات إيران الإقليمية، والذي يعني أن القبول الأميركي بحصر المحادثات في هذه النقطة بالذات سيعني إمكانية عقد اتفاق، لأن إيران مقابل رفع العقوبات عنها ليس لديها أيّ مشكلة في أشكال الرقابة، وفي نسبة التخصيب للأغراض السلمية سواء على مستوى «الطاقة» أو على مستوى الأبحاث الطبية.
وقد بتنا نعرف الآن أن الوفد الأميركي لم يكن «موحّداً» في موقفه من المحادثات وأن الهدف هو الذهاب إلى تفكيك البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات، بل هناك في إطار الوفد من يقف على يمين نتنياهو في هذا الأمر، وبما يتجاوز التفكيك على الطريقة الليبية.
لهذا، فإما أن يكون اقتراح «التنحّي والاختفاء» قد تمّ طرحه، أو محاولة طرحه لكل الأسباب التي شرحناها أعلاه، وإمّا أن تلك الأوساط العليا إضافة إلى كل ذلك أصبحت على قناعة راسخة بأن مسار تطور الأزمة الداخلية قد دخل في مرحلة جديدة من التصعيد.
وهنا علينا أن نلحظ زيادة وارتفاع وتيرة المزيد من «التوغّل» في القطاع والذهاب إلى أعلى درجات «الضغط» والتحكّم الكامل بدخول المساعدات وتوزيعها، مقابل ازدياد آخر على الجانب الآخر من معادلة هذه الأزمة المستحكمة، والذي بات على قناعةٍ تامّة بأن حكومة التطرُّف العنصري لم تعد تهتمّ بمصير الأسرى الإسرائيليين، وأنّ على «المعارضة» الانتقال إلى أشكال تصعيدية جديدة يرى البعض أنها لن تُجدي نفعاً إذا لم تتحوّل إلى العصيان المدني، وإذا لم تتجاوز كل الأشكال السابقة من الاحتجاجات.
أقصد أنّ هذه الدرجة من الحساسية السياسية لن تمرّ مرور الكرام، وأنّها تحمل في طيّاتها «مخاطر» الصدام في الشارع السياسي، والذي قد يهدد وحدة مؤسّسات الدولة والمجتمع، ويفتح الباب واسعاً أمام صدامات اجتماعية يمتلك من خلالها «اليمين الفاشي» كل الإمكانيات اللوجستية لربحها إذا لم تتدخّل قوى الأمن وأذرعته، وإذا لم يتدخل الجيش نفسه.
هذه المسألة بالذات تحمل من المخاطر، ومن صنوف المقامرة ما هو أكبر وأخطر من تبعات «الضربة» الإسرائيلية لإيران، هذا إذا لم تكن هذه المسألة بالذات «محسوبة» عند نتنياهو، وعند من يقف معه بالكامل كمسألة مترافقة ومتلازمة مع الضربة الإسرائيلية لإيران.
وبالعودة إلى مخاوف الأوساط العليا من المسألتين فإن السؤال هنا هو: ما معنى، وما هي دلالات أن تذهب دولة الاحتلال «بمفردها» لضرب إيران دون الضوء الأخضر الأميركي؟!
وهل أن الذهاب بهذا الاتجاه هو دليل قوة، ودليل حسم، ودليل «توفّر» فرصة قد لا تتكرّر لدولة الاحتلال، ومدى ما تحتويه هذه الحقيقة من خداع وتمويه وتضليل؟!
محاولة الإجابة عن هذه الاستحقاقات الاستفهامية مسألة تحتاج إلى بعض الوقت، وإلى ظهور بعض المعطيات والمؤشّرات، ولعلّها ستتوفّر في الأيّام القادمة، وحينها يمكن محاولة الكتابة حولها، وعلى كل حال ستكون موافقة نتنياهو على «صفقة» كهذه بمثابة معجزة.