قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي في عهد جو بايدن، تعقيبا على المحادثات الأميركية/ الإيرانية حول برنامج إيران النووي، إنها ستنتهي باتفاق مشابه تماما لذلك الاتفاق الذي تم التوصل إليه عبر مجموعة 5+1 في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وذلك العام 2015، والذي تم التوقف عن العمل به، منذ العام 2018، حين تنصل منه ترامب في ولايته السابقة بتحريض من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت.
ذلك يعني أن العودة للوراء عشر سنوات تؤكد أن الإدارة الأميركية تسير وفق عماء استراتيجي، وأنها منذ نشأ النظام العالمي أحادي القطب باتت محكومة برجال الأعمال، المليارديرات الذين يصرفون على الانتخابات الرئاسية والتشريعية ببذخ، لذلك فإن السياسة الأميركية باتت وإن كان بالتدريج شيئا فشيئا تركز على ما هو آني، مرتبط بالشعارات الانتخابية الرنانة، وربما كانت تلك السنوات العشر بالتحديد، خير دليل على ما ظهر من تخبط في السياسة الخارجية الأميركية خاصة، وبالتحديد في مواجهة تحديات جادة لنظامها العالمي، حيث تركز الخلاف ما بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي حول تحديد أولوية المواجهة ضد الصين أم ضد روسيا، وذلك يعود أيضا إلى داعمي الحزبين، سواء أكانوا تجار السلاح أم تجار العقارات.
وفي تأمل لآخر فصول السياسة الخارجية الأميركية، يظهر التراجع الناجم عن التجريب والتخبط، كسمة أساسية لها، فخلال مائة يوم أولى لولاية ترامب الحالية، أطلق التهديدات في كل الاتجاهات، من بنما وغرينلاند، وصولا إلى ريفيرا غزة، مرورا بكندا والمكسيك، وانتهى به الأمر إلى إصدار التعرفة الجمركية ضد معظم دول العالم، لكنه وفي لمح البصر تراجع، فلم يعد أحد يسمع شيئا بخصوص غرينلاند أو كندا، فيما حديث ترامب عن ريفيرا الشرق الأوسط قد انتهى «منذ زمن» وفق تعبير رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك، بما يؤكد أنه لم يعد كل ما يريده ترامب أو يقول به يتحقق، بل لم يعد بإمكان أميركا، أيا كان رئيسها أن تفرض إرادتها على العالم.
وما ينطبق على أميركا التي بات عليها أن تدرك حقيقة أنه ـــ وهي ما زالت أقوى دولة عسكريا في العالم، وحتى وهي ما زالت في الوقت نفسه أكبر اقتصاد في العالم ـــ لا يمكنها أن تفرض إرادتها منفردة، ولا حتى أنه بات بمقدورها أن تقود العالم، بشكل أحادي، وأنه عليها حتى تبقي على مكانة عالمية لها، لا أن تظهر كما فعل معها ترامب قبل أسابيع قليلة، وهو يصدر تعريفاته الجمركية ضد الجميع، كدولة في مواجهة العالم كله، بل أن تقر بأن ملعب السياسة العالمية ليس لها وحدها، وأن اللعبة السياسة تقتضي وجود منافسين، أحدهم في الملعب والآخرون في المدرجات ينتظرون دورهم التالي.
وهذا يعني أن عالم اليوم يقوم على أساس الشراكة الجماعية، وليس على قاعدة القيادة المنفردة، ومدخل ذلك كله التفاوض، وما ينطبق على أميركا، ينطبق دون أدنى ريب على اسرائيل التي تعتبر نفسها صورة أميركا في الشرق الأوسط، وكيلتها أو شريكتها الأصغر، وأن اسرائيل بذلك في أحسن حالاتها، ترى العالم قائما على قاعدة نظام عالمي أحادي، مشكل من كتل إقليمية أحادية بدورها، لذلك سعت منذ انتهاء الحرب الباردة إلى تفريغ الشرق الأوسط من كل مراكز القوة العسكرية والاقتصادية، لا تستثني أحدا في ذلك سواء أكانوا أعداء أم حلفاء، وقد تعززت قاعدة اسرائيل الداخلية في هذا الاتجاه مع حكم يميني متواصل منذ ثلاثة عقود مضت.
هذا المسار قاده نتنياهو صاحب كتاب «مكان تحت الشمس»، وقد بدأ طريقه رافضا لأوسلو كونه طريق الحل السياسي التاريخي بين دولة لكل مواطنيها، هي اسرائيل إلى جانب دولة فلسطين، ورافعا شعار الدولة اليهودية، ومن ثم واصل طريقه في نفي الآخر الفلسطيني، وصولا إلى الشراكة مع كل من إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وبالتوازي مع وجود الشعبوي دونالد ترامب في البيت الأبيض، وبذلك يكون نتنياهو المشبع بأفكار جابوتنسكي قد وصل لآخر مشواره على طريق إقامة اسرائيل الكبرى، أي الدولة اليهودية التي تعني أنه ليس هناك من مكان لدولة فلسطين، إضافة إلى ضم أراضٍ أخرى من دول الجوار، وصولا للنيل والفرات بشكل عبّر عنه صراحة سموتريتش، وحتى نتنياهو نفسه وهو يعرض خرائط الشرق الأوسط كما يريده، وذلك في الأمم المتحدة.
وكما كانت غزة ــ أريحا أول خطوة على طريق الحل الذي أجهضه نتنياهو، بقلب الحكم في اسرائيل العام 1996، بعد عامين فقط على توقيع أوسلو، وكما جعل من انفصال غزة عن السلطة الفلسطينية منذ العام 2007، أول حلقات سلسلة التراجع عن الحل التاريخي، وأول الطريق إلى اسرائيل الكبرى، فإن وصول نتنياهو إلى آخر المطاف بإطلاقه حرب الإبادة ضد غزة، هو تتويج لمساره السياسي الذي قاده طول ثلاثة عقود، وبعد أن كان يراوغ ولا يقول الكلام العنصري أو الفاشي بوضوح، بات مع شركاء تنفيذيين صنعهم بقيادته اليمين الإسرائيلي طول كل الفترة الماضية، يقول بنفي الآخر علنا، وكان إصرار نتنياهو على عدم وجود خيار السلطة الفلسطينية فيما سمي اليوم التالي للحرب على غزة، تأكيدا دامغا، لا لبس فيه على عنصرية اليمين الإسرائيلي برمزه وقيادته نتنياهو وبأحزابه المكونة للائتلاف الحاكم الحالي: «الليكود» و»الصهيونية الدينية» و»القوة اليهودية».
مترافقا بقيادته للحرب على كل الجبهات المحيطة بإسرائيل، أي جبهتي فلسطين، غزة والضفة، وبرفضه للكل الفلسطيني، وجبهات لبنان، سورية، العراق، اليمن، ايران، وحتى الأردن ومصر، وكذلك السعودية التي لم تسلم من عدائيته لها حين استخف بموقفها الذي يربط بين شرطها للتطبيع بقيام الدولة الفلسطينية، حيث قال، إنه يمكنها ــ أي السعودية أن تقيم دولة فلسطين على أرضها ــ وضع نتنياهو بحرب الإبادة على غزة، اسرائيل في مواجهة العالم كله، ليس الحكومات وحسب من خلال المواقف الداعية ليل نهار لوقف الحرب، وليس القضاء الذي أدانه مع يوآف غالانت كمجرمي حرب مطلوبين للعدالة الدولية بصفتهما الرسمية، بما يعني إدانة اسرائيل نفسها، ولكن أيضا شعوب الكرة الأرضية التي تواصل الاحتجاج الشعبي بالتظاهرات الرافضة لجرائم الحرب الإسرائيلية، بما لم يحدث مع أي دولة من قبل.
نتنياهو، يقول علنا، إنه يسعى من خلال حربه على سبع جبهات، ومن خلال تحريضه لأميركا لشن الحرب على ايران، إلى أن يغير الشرق الأوسط، نحو نظام إقليمي محكوم إسرائيليا، وهو بذلك يضع اسرائيل في مواجهة كل دول الشرق الأوسط، ويفتح الباب لإقامة نظام إقليمي متعدد، ينشأ من خلال حوار إقليمي بين دوله المركزية، أي الخليج ممثلا بالسعودية، الإمارات، قطر، مصر، ايران، تركيا، أما قوله، إن دولة فلسطين وهمية، فهي ورغم أنها ليست دولة مستقلة بعد، إلا أنها تتمتع باعتراف ثلاثة أرباع دول العالم، وهكذا فإن إنكار نتنياهو لحقيقة الدولة الفلسطينية التي لا سلام ولا مستقبل للنظام الإقليمي الشرق أوسطي دونها، يعني أنه هو الواهم المتوهم، الذي يقف ضد الإرادة الدولية.
واستعراض عاجل لما يدلي به نتنياهو ووزراء حكومته من تصريحات ضد العديد من الدول والكثير من رؤساء الدول من أوروبا إلى الشرق الأوسط يظهر إلى أي مدى باتت اسرائيل معزولة سياسيا، وأنها تقف ضد معظم العالم فيما يخص الترتيبات في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها إقامة دولة فلسطين المستقلة، ومدخلها التعامل والتفاوض مع السلطة الفلسطينية، وإذا كانت أميركا تفاوض ايران في عهد ترامب، وحتى لو كان ذلك الهدف منه منع اندلاع الحرب الإقليمية كما سعى لذلك بايدن نفسه، بعدم إجبار ايران على مشاركة حلفائها أو أذرعها كما يحلو لإسرائيل وصف جبهات المقاومة الإقليمية، فإن آخر مراهنات نتنياهو التي تعلق بها، حين أصر على مواصلة الحرب، انتظارا لدخول ترامب البيت الأبيض، قد باتت على المحك، وهذا يعني أن ساعة توقيته قد شارفت على الانتهاء مع بدء ظهور الخلافات أو حتى عدم الاهتمام من قبل البيت الأبيض، حيث بدأ يظهر التأثير الأقوى لمصر وقطر كراعيين لمفاوضات إنهاء الحرب.
وكما نجحت خطة مصر في مواجهة خطة التهجير، ستجبر اسرائيل على وقف الحرب مقابل إطلاق كل المحتجزين، وهكذا ستعود غزة مجددا، لتكون أول مسار الحل، حتى وهي ضحية حرب الإبادة، فإن غزة بعد وقف الحرب ستطارد كلعنة نتنياهو وشركاءه في مشروع اسرائيل الكبرى، بما حققته من إدانة دولية لإسرائيل، وتجبر الاسرائيليين على نبذهم، وتكون بذلك مقتل وهم اسرائيل الكبرى.