لم تشهد دولة الكيان حراكا شعبيا غاضبا منذ عام 1948، كما تعيشه راهنا، وخاصة في الأسابيع الأخيرة، تجاوزت ما عرف بمظاهرات "الثورة القضائية" التي أنهكت أركان المؤسسة الحاكمة، وكانت على وشك الدخول في مسار صدامي خطير، أنقذها "7 أكتوبر 2023".
لكن المشهد الغاضب المتسع يوميا داخل الكيان، بات يأخذ منحى مختلف عما سبقه من هبات غضب، بعدما دخلت قطاعات أمنية تتزايد، من الاحتياط بكل مكوناتهم، وغالبية قيادات المؤسسة الأمنية السابقين، تطور يشير أن المسار القادم لن يكون كما سبق أن كان.
الخوف من "الظلامية الفكرية – السياسية"، باتت هي المسألة التي تمثل قوة محركة لهبة الغضب الانتفاضية ضد الحكومة الفاشية، وصف بدأ يأخذ طريقه في اللغة العبرية دون تلك الحساسية "التاريخية" من العقدة النازية، بل أن اللقب الأكثر رواجا "الديكتاتور نتنياهو"، تعبير لم يسمعه سكان الدولة العبرية منذ وجودها اغتصابا لأرض فلسطين، وكأنها باتت أحد جمهوريات الموز.
لم يعد غريبا أبدا، أن يخرج أحد قادة المؤسسة الأمنية السابقين، ويطالب بضرورة اعتقال نتنياهو، كونه بات يمثل "خطر وجودي" على الكيان، فيما لو استمر في منصبه وحكومته، التي تتصادم مع أركان الدولة.
هبة الغضب الانتفاضية ضد حكومة نتنياهو تجاوزت كثيرا مسألة حرب غزة، والذهاب نحو صفقة وقف إطلاق النار تسمح بعودة "الرهائن"، لتطال أعمدة المؤسسة ذاتها، خاصة محاولة مصادرة "القضاء" و "تأميم" المؤسسة الأمنية لتصبح كلاهما في خدمة الحاكم، الغارق في ملفات فساد قديمة، وفضيحة مدوية تم الكشف عنها حديثا، "قطر غيت"، فباتت "حرب البقاء" عنوان المعركة التدميرية لأركان الكيان.
ربما لم تشهد دولة أو كيان، في مختلف أرجاء المعمورة، أن يكون جهاز القضاء وكذا قادة المؤسسة الأمنية، وتحديدا جهاز الأمن الداخلي في صدام علني مكشوف مع الحاكم الأول، معركة ليست لها مثيل في أي من مكونات الكون، بل أن عائلة الحاكم باتت طرفا مباشرا في فتح حرب جانبية ضد أركان المؤسستين.
هبة الغضب الانتفاضية ضد حكومة الفاشية اليهودية، ليس حدثا عابرا يمكن أن ينتهي بإزاحة هذا الطرف أو ذاك من أعمدة المعركة، بل تركت أثرها عمليا على جوهر الفكر السياسي، خاصة بعدما طالب "الديكتاتور نتنياهو" بإسقاط ممثلي "الدولة العميقة"، والتخلص منهم كونهم عقبة التطور ورافضي "النظام الديمقراطي"، لتصبح جزءا من التعابير السائدة بين أنصار الفاشية الحاكمة.
هبة الغضب الانتفاضية المتحركة، كشفت أن "الكاهانية الفكرية الحديثة"، التي تمثل وجها آخر للفاشية القديمة، بدأت تتسلل إلى المؤسسة الأمنية ليس كحالات فردية، بل كجزء من عمل تنظيمي لتشكيل "خلايا متنامية"، يمكن أن تصبح قوة لفرض موقفها لاحقا على التكوين الأمني الخاص.
ومع التطورات العاصفة وهبة الغضب المتصاعدة يوميا بشكل متسارع، لتشمل قطاعات واسعة، برز منها انضمام عشرات آلاف من منتسبي جيش الكيان والمؤسسة الأمنية، بات النقاش حول خطر الحرب الأهلية، وأنها لم تعد خيارا "وهميا"، بل هو خيار ممكن متعلق بزمن انتظاري وفقا لمسار الأحداث القادمة، مع انتقال أوساط من أنصار "الكاهانية الجديدة"، عبر ممثليهم بن غفير وسموتريتش إلى حركة توزيع السلاح وتشكيل خلايا سرية خارج القانون.
الحرب الأهلية داخل الكيان ملامحها واضحة، عناصرها محددة شرارتها بدأت، بل أن الإشارة لها وخطرها بات جزء من النقاش اليومي في المشهد الإسرائيلي، خاصة بعد كشف "التنظيم السري" داخل الجهاز الأمني، وفجر جدلا واسعا، حول ما يعرف الان بـ "فضيحة التسريب"، يرى أنصار "الكاهانية الجديدة" داخل تحالف نتنياهو وحكومته الشخص المسرب "بطل قومي"، فيما يراه الرافضون "خائن قومي".
مشهد إسرائيلي لم يكن يوما جزءا من الحسابات الخاصة في المعركة الكبرى، لكنه أصبح "حقيقة سياسية"، لكن انتقاله الى مسار مختلف جدا رهنا بسلوك الرسمية العربية، التي لا تزال تمثل مواقفها وسلوكها العملي "الجدار الواقي" ليس لمنع سقوط حكومة الفاشية المعاصرة، بل لمنع انفجار حرب أهلية واسعة داخل الكيان.
واستخداما للأداة التي تفتح باب الشيطان السياسي "لو" قررت الرسمية العربية من محيطها إلى خليجها، تطبيق مقررات القمم العربية الأخيرة (ما بعد قمة المنامة)، والبيانات الصادرة عن السداسي العربية حول:
* تعليق العلاقات مع دولة الكيان..وسحب التمثيل الديبلوماسي.
* وقف كل أشكال العلاقات الاقتصادية مع حظر السفر منها وإليها (كما حدث مع ماليزيا والمالديف مؤخرا).
* منع استخدام الأجواء العربية لأي طائرة تحمل مسمى وشعار الكيان.
* وضع قائمة بأسماء مجرمي حرب يتقدمهم المطلوب رقم 1 عالميا نتنياهو، وكل أركان حكومته والمؤسسة العسكرية والأمنية.
* اعتبار داعمي حرب الإبادة أعداء للدول العربية.
* وضع المصالح الاقتصادية معيارا للموقف السياسي نحو القضية المركزية.
* العمل بشكل حقيقي نحو الارتقاء بعضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وأن يصبح الاعتراف بها جزءا من الشأن العربي الداخلي.
* حظر مشاركة أو ظهور أي من مؤيدي حرب الإبادة في وسائل الإعلام العربية.
* التفكير العملي باستخدام المقاطعة كسلاح اقتداء بمرسوم ترامب للتعرفة الجمركية "المصالح أولا".
خطوات كافية ليس لفتح حرب أهلية داخل الكيان لإسقاط "الديكتاتور" وتحالفه، بل كفيلة برسم مشهد إقليمي جديد تكون قوة الفعل والقرار عربيا خالصا، وغيرهم تابعين.
ولكن هذه الـ "لو" الشيطانية لم يعد لها مكان في التفكير الرسمي العربي..فالواقع القائم هزم كل الرغبات والأمنيات بما فيها التي كانت يوما ممكنة.