في الحياة يجتهد الأفراد، فمنهم من ينجح ومنهم من يفشل، وهناك من يشق طريقه بشكل مشروع، فيكد ويتعب، وفي النهاية قد يكون هناك من يحسده أو يغار منه، ومن ثم يقلده، لكن لا يكون له أعداء بسبب نجاحه في عمله، كذلك من يفشل يجد عادة من يواسيه ويشفق عليه، لكنه لن يجد أحداً يعمل بدلاً منه، وقد يكون حال الدول مشابهاً لحال الأفراد، فهناك دول كانت حتى الحرب العالمية الثانية محتلة، مثل الصين، الهند، وحتى هناك دول هُزمت واحتلت وفرضت عليها اتفاقيات استسلام في تلك الحرب، لكنها اليوم، غدت دولاً عظمى، اقتصادياً وعسكرياً، وهذان هما معيار عظمة الدول في العصر الحديث، وهذه الدول لم ينجم عن صعودها الاقتصادي والعسكري أعداء لها، ذلك أن قوتها الاقتصادية والعسكرية لم تنجم عن احتلال دول أخرى، أو عن نهب ثروات الآخرين أو استغلالهم، كما كانت الدول العظمى تفعل خلال عصر الاستعمار الذي اختفى منذ الحرب العالمية الثانية.
مع ذلك فهناك دول ينجم عن صعودها، أو عن قوتها العسكرية والاقتصادية أعداء لها، سواء كانوا في الجوار، أو في ما وراء الحدود والبحار، واذا كانت قوة الصين كمثال، لم تنتج اعداء لها، بل على العكس ربطتها بمعظم دول العالم بعلاقات جيدة، ناجمة عن التبادل بندية واحترام، فإن قوة دول أخرى كانت بمثابة قوة قهر وتسلط وجبروت على الآخرين، وهذه هي حال الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص، فأميركا الدولة الوحيدة في العالم التي تنشر قواعدها العسكرية في كل قارات ومحيطات وبحار العالم، من أجل السيطرة، وقوتها العسكرية ليست قوة دفاع ولا بأي حال من الأحوال، ولا حتى قوة ردع، لأنها أقوى دولة في العالم عسكريا واقتصاديا وسياسيا، والآخرون يحاولون بامتلاك النووي جعله سلاح ردع مقابلها، هنا تظهر روسيا كمثال، أما عن كيفية وصول أميركا لثروتها الاقتصادية، فحدث ولا حرج، فحيث كان النفط كانت القواعد الأميركية، فيما النظام العالمي الحالي يضع في الخزانة الأميركية تريليونات من الدولارات مقابل «بلطجة» دولية، وفي أحسن الأحوال مقابل عمولات التداول، وخير مثال عمولة تحويل الأموال بين دول العالم استنادا لنظام SWIFT .
ولأميركا أصدقاء، لكن لها أعداء أيضا، وخير دليل على ذلك أنها وبعد الحرب الباردة، وطوال أكثر من ثلاثة عقود خاضت حروبا عسكرية في أكثر من مكان، وفرضت عقوبات اقتصادية وكذلك حصارا على كثير من الدول والأنظمة، فقط لأنها لا تسير وفق ارادتها كما لو كانت تابعة لها، وفي كل الأحوال، فإن لكل شيء نهاية، وعادة ما تشيخ الدول والأنظمة، لكن الدرس الأهم، هو أنه قد يحقق بعض القادة وبعض الدول توسعا واحتلالات وقد يحققون انتصارات متوالية، لكنهم بعد أن يوقعوا الملايين من الضحايا، يسقطون في النهاية، بسبب ما تنتجه حروبهم وقوتهم وتفوقهم على الآخرين من مقاومة ومن ردة فعل، ليس بالضرورة أن تكون تلقائية وفورية، لذلك تغريهم عادة الانتصارات المتوالية، فينتشون، ويتصرفون بدون حكمة وبمنطق قوة البطش، الى أن ينتهي بهم الأمر على قارعة طريق السياسة والتاريخ.
ينطبق هذا الكلام بقدر ما على أميركا حاليا، بعد أن خاضت حروبا عديدة خلال عقدي تسعينيات القرن الماضي والعشرية الأولى من القرن الحالي، وحيث أنها تخوض حربا تجارية اليوم بتنمر اقتصادي، ومن خارج الاطار القانوني لمنظمة التجارة العالمية، وبعد أن دفعت أوكرانيا لخوض حربها مع روسيا بالنيابة عنها، لكن هذا المنطق ينطبق بالكامل على اسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، فإسرائيل نسيت أنها وجدت على يد الغرب الأوروبي_الأميركي وما زالت تستمد وجودها منه عبر حبل سري عسكري_سياسي_اقتصادي، وأن ذلك كان بدافع استعماري تغيرت طبيعته مع تغير منطق العصر، كذلك بدافع التخلص من المسألة اليهودية التي سببت صداعا سياسيا للغرب كله وعلى مدار قرون مضت.
أي أن اسرائيل نسيت أن وجودها نفسه، يثير حفيظة الشرق الأوسط كله، وليس الفلسطينيين وحسب، وهي ومجرد أن أظهر الفلسطينيون وشعوب الشرق الأوسط كلها استعدادا لقبول وجودها، امتلأ رأسها بالوهم لدرجة أن تحاول التوسع والتحقق والحصول على القوة العسكرية والاقتصادية، ليس عبر الجهد الذاتي ولكن عبر احتلال أراضي وثروات الآخرين، ومن خلال التفوق العسكري على الجميع، وهنا يمكن القول، بأن أحدا من العرب، ولا حتى الدول الاسلامية في الشرق الأوسط، لديها أي استعداد للقتال من أجل فرض الإرادة الدولية التي تقول بحل الدولتين على اسرائيل، لكن اسرائيل لا ترضى بمساحتها الجغرافية وتريد التوسع على حساب الجيران، ولو عبر ما تسميه المناطق الأمنية، كذلك هي تحلم بالسيطرة على ثروات المنطقة، وليس أدل على ذلك من وضع اليد على آبار غاز البحر المتوسط، سواء كان ذلك غاز غزة، أو لبنان او سورية، وحتى مواجهة تركيا بالتحالف مع قبرص واليونان بهذا الخصوص.
واسرائيل ليست فقط ما زالت في حالة عداء، رغم وجود ست معاهدات سلام بينها وبين دول عربية، لكنها تجدد استعداء شعوب الشرق الأوسط كلها، بما في ذلك الشعبان الايراني والتركي، ولأن قوة اسرائيل العسكرية الحالية تفوق كل ما في دول الشرق الأوسط فهي ليست قوة دفاعية، بل هجومية تماما، واسرائيل هي التي تعربد وتهاجم وتحتل وتقتل وتدمر الآخرين، فيما لا أحد في الشرق الأوسط له القدرة أو الرغبة في تدميرها، ورغم ذلك فإن ظهور نتنياهو كحالة سياسية، أي بعد تحالفه بل واعتماد حكومته الحالية في بقائها كحكومة حرب إبادة متواصلة على اليمين العنصري الفاشي المتطرف، يعني بأن إسرائيل، حتى وان حققت انتصارات عسكرية، وتمددت واحتلت وسيطرت، ولأن كل ذلك يكون على حساب الغير، فلن تبقى انتصاراتها ولا احتلالاتها ولا توسعها، وستنهار قوتها العسكرية وقوتها الاقتصادية.
ولقد استنفذ بنيامين نتنياهو خلال عامين ونصف، كل خبرته وكل ما راكمه عبر حكوماته الخمس السابقة، من تطرف يميني على طريق جابوتنسكي، واستخدمه في حرب الابادة، التي ستنتهي أولا باخراجه من مسرح السياسة، حتى لو حقق انتصارات يطلق عليها قادة الأمن في اسرائيل مصطلح الانجاز التكتيكي، ولأن هدفه من مواصلة التحريض على ايران ومحورها، كان أن يفرغ الشرق الأوسط من القوى العسكرية والاقتصادية المنافسة، وذلك بعد أن حقق الكثير بتدمير العراق، سورية، ليبيا، واليمن، وعمليا صار كل المشرق العربي، تحت السيطرة، إن لم تكن الاسرائيلية فالأميركية الصديقة، لذلك فأن يضطر للتوقف في منتصف الطريق يعني بأنه قد هزم.
الأمر متعلق بتقديرنا بما ستؤول اليه المفاوضات الأميركية الإيرانية، لأن قادة مشروع إسرائيل الكبرى، يسعون لتحقيقه إن لم يكن بالاحتلال العسكري فبالسيطرة الاقتصادية، لذلك كان الهدف هو منع المنطقة من امتلاك الطاقة النووية لما تحققه من نمو اقتصادي، وحتى لو نجح نتنياهو بقطع أذرع ايران الإقليمية، أي نظام الأسد وحزب الله، حماس والحوثي، فإن الهدف لا يكتمل ولا يتحقق دون تفكيك المفاعلات النووية الإيرانية.
بكل الأحوال هناك لحظة ستتوقف فيها الحرب أيا تكن نتيجتها، وفي تلك اللحظة ستبدأ اسرائيل بدفع ثمن جرائم الحرب، على صعيد علاقاتها بالعالم، وحيث أن نتنياهو نجح في مواصلة الحرب وصولا لعودة ترامب للبيت الأبيض، على أمل أن يحقق له هدفه بضرب ايران، ولأن طريقه لذلك كان مواصلة الحرب على غزة، فإن متوالية عرائض العسكريين السابقين والاحتياط التي وصلت لمائة الف، احتجاجا على العودة للحرب، تنطوي على أكثر من اشارة، منها أن العرائض تأتي بعد أن أخرج نتنياهو من دائرة قرار الحرب قادة الأمن المحترفين، ولأن من يوقع العرائض عسكريون وامنيون ومنهم قادة سابقون، وذلك يعني بأن الوسط الأمني يواصل الاعتراض على نتنياهو، كذلك يأتي هذا الاحتجاج الاسرائيلي ليعوض الصمت الشعبي العربي وحتى العالمي، الذي كان صاخبا قبل توقيع صفقة التبادل.
صحيح أن هناك دافعاً مباشراً وهو اعادة المحتجزين احياء وذلك عبر الطريق الوحيد المتمثل بصفقة التبادل، وهذا ما بات يقر به نتنياهو وطغمته التي تشاركه في ارتكاب جريمة حرب الإبادة، حيث لم يعد يقول بخوض الحرب لإعادة المختطفين، بل كضغط عسكري على حماس لتقبل بالاستسلام، كذلك فإن مشاركة أطياف يهودية أخرى في معركة العرائض تشير الى ان مؤسسات الدولة وأوساط المجتمع الإسرائيلي، وحتى قوى يهودية عالمية، ترى ضرورة التضحية بنتنياهو من أجل الحفاظ على إسرائيل.