تورطت حماس ولم تأتِ الرياح العاصفة حسب ما اشتهت السفن قليلة التجربة في الإبحار، وورطت معها شعباً كاملاً وقضية كاملة تقاتل منذ ثلاثة أرباع القرن لتعود بها إلى نقطة الصفر بعد أن حققت القضية ما يكفي من حضور لشعب تشتت بعد النكبة وها هو يعود للنزوح والهجرة والخيام والجوع، ولتستدعي هزيمة كنا بغنى عنها.
لكن العقل الذي لا يقرأ التاريخ أو يقرؤه من زاوية محدودة جداً لا بد أن يقع ويوقعنا معه حين يستولي على القرار، وهذا ما حدث لنبحث عن مخرج لا يبدو في الأفق حين وقع الشعب الفلسطيني فريسة تحت أنياب الوحش الإسرائيلي.
يبدو أن حركة حماس لم تدرك بعد أنها قامت بعملية انتحارية جماعية دون أن تحسب العواقب في منطقة وصراع يحتاج الكثير من الحسابات، فكل نظريات التاريخ وحركته التقليدية لا تصلح حين يتعلق الأمر بصراع يختلف عن كل الثورات وتجارب حركات التحرر مع دولة يحتاج الصراع معها إلى عقل وليس إلى عضلات، فكل الاحتلالات القديمة هي احتلالات مصالح لها دول وعواصم تعود إليها حين تتلقى ضربات موجعة لكن إسرائيل لا دولة تعود لها، لذا تخوض حروباً وجودية كما سمتها وأن للعملية الانتحارية ثمناً شديد الفداحة على الشعب وعليها أيضاً.
لم تصل حماس إلى النتيجة التي أفرزتها نتائج الميدان بالهزيمة العسكرية «التي آخر ما كان يريده الفلسطيني الذي لا يحتمل هزائم» والتي يعني التلكؤ بالاعتراف بها ثمناً أكبر من أن يحتمله شعب وجد نفسه محاطاً بالإسرائيلي من جهاته الأربع، والذي لا يكتفي بالإبادة والسحق بل يستكمل إذلال الشعب بالتجويع وهو أقسى من الموت نفسه.
لم تقرأ حماس العقل الإسرائيلي ولا فهمه لنفسه ولا عقده النفسية التي أنتجتها تجربة هي خليط من الأسطورة والواقع فأنتج هذا الخليط عقلاً مذعوراً لا يتورع عن الإبادة حين يتعرض لهزة كبيرة وهذا ما حدث، على امتداد الثورة كان يتعرض لهزات صغيرة لا تستفز الوحش بداخله لكن الحركة ذهبت أبعد مما يجب لأقصى المعادلة لتجني ويجني الشعب نتائج معاكسة.
منذ ما قبل الحرب وعلى امتداد سنوات حكمها لغزة كانت الحركة تسير باتجاه خاطئ، حاول الكثيرون تصويبه قبل أن يصابوا بالإحباط نتاج انغلاق الحركة التي لم تكن تسمع إلا لذاتها ولا تريد أن تسمع سوى صدى صوتها ورؤيتها التي كان واضحاً أنها تسير نحو اصطدام تيتانيك بجبل الجليد.
ومنذ بداية الحرب تجاهلت بل هاجمت كل الأصوات التي أدركت فداحة اللحظة وأدركت أنه بعد الانتحار لن يكون هناك متسع لبقاء حركة حماس كقوة حاكمة في غزة، هذا إذا لم تتم ملاحقتها وإخراجها من المشهد.
كانت النصائح تقول: تراجعوا للوراء لقطع الطريق على الحرب المسعورة، لكن الحركة لم تكن تسمع، حتى في أثناء التهدئة واحتفالات التبادل كانت تظهر لوحة كبيرة تكتب عليها «نحن الطوفان، نحن اليوم التالي» في حالة انفصال كبيرة عن واقع الحدث السياسي والميداني الذي يوغل في الخسارة، حد الحديث عن سحب السلاح وهو ما كانت ستصل إليه النتيجة بكل الظروف لدى إسرائيل التي قررت منذ اليوم الأول للحرب ضمان أمن إسرائيل لخمسين عاماً قادمة.
لن تقبل إسرائيل ببقاء حماس، وكل إسرائيل لديها إجماع على ذلك. لذا بات من العبث أن نعتقد أن المفاوضات الدائرة يمكن أن تنتهي بوقف الحرب وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وعلينا أن نعترف أن هذا الاعتقاد قاصر ومكلف بل يوفر لإسرائيل فرصة لاستكمال مشروع تصفية غزة.
وهنا بات من الضروري البحث عن حلول حتى لو كانت مؤلمة لوقف رحلة العذاب الطويلة لأهل غزة الذين دفعوا كل ما يملكون بلا ثمن.
تتوقف الحرب بطريقتين، الأولى أن تتمكن حركة حماس من إرغام إسرائيل على وقفها بالقوة، وهذا تبدد منذ الأشهر الأولى حين أخذت إسرائيل باجتياح القطاع واحتلال مدنه، وتأكد ذلك بعد تحييد المحور المساند وخروج حزب الله من معادلة الحرب ليصل الأمر لاجتياح رفح التي تمثل خمس مساحة القطاع دون أن يواجه جيش إسرائيل أي ممانعة، والثانية أن تقر حركة حماس بخطأ حساباتها وعجزها عن وقف الحرب وحينها عليها أن تترك لغيرها البحث عن حلول للورطة شريطة أن تلتزم بها، فهي ليست مسؤولة وحدها عن الشعب الفلسطيني حتى تلقي به لهذه المهلكة ثم تقف أمامه عاجزة عن حمايته أو إنقاذه، وتصر وحدها على التحكم بالحل غير الممكن والذي أصبح أكبر من إمكانياتها بكثير.
نحن شركاء في الكارثة، فمنذ بداية الحرب ترددنا أن نكتب بصراحة أن إسرائيل تمكنت من إقناع أوروبا والولايات المتحدة وكثير من دول العالم بأن ما فعلته حركة حماس هو هولوكوست، وقد ابتلع العالم الرواية وهذا يعني خروج الحركة من المشهد، خشيتنا من الفهم الخاطئ للحركة مما نكتب ولكنه كان على حساب الأهل والبلاد والمدن والعباد.
لكن في لحظة ما بات علينا أن نقدم قراءة أكثر وضوحاً بأن لا أحد سيقبل بوجود الحركة، فقد قامت بالانتحار وعليها أن تترك لغيرها مجالاً لمعالجة كل هذا الخراب.
فقد عادت القضية لسبعة عقود للوراء حين كان الشعب يبحث عن خيمة وحين كان على العرب أن يجدوا حلاً للفلسطيني كأنه بلا قيادة تائهاً في الصحراء.
والمأساة أن منظمة التحرير في اللحظة الأكثر سواداً التي كان يبحث فيها الفلسطيني عن قيادة ترمم ما فعلته القوى المغامرة، كانت تسجل غياباً لا يقل فداحة، فقد اختفت في تلك اللحظة ولم يبقَ غير العرب وحدهم من يمكن أن يخرجونا من هذه الورطة وإلا على الشعب السلام مما فعله الفلسطيني المغامر.