بعد جدل قصير من التصريحات المتفائلة، بما في ذلك من دولة الاحتلال بشأن الاقتراب من التوصل إلى صفقة تهدئة في جبهة الحرب المسعورة على قطاع غزة، كسر بنيامين نتنياهو ذلك التفاؤل، ودفع من خلال شروطه الجديدة الأوضاع إلى ما يبدو على أنها نقطة اللاعودة.
نقطة اللاعودة، تعني استمرار الحرب الإبادية والتجويعية، بذريعتها الراهنة على غزّة، ريثما يتسنّى لنتنياهو مواصلتها وتوسيعها على جبهات أخرى، وإذا لم تتوفّر له الذرائع، فإن ما يجري على ساحة الضفة الغربية ابتداءً من شمالها، سيؤمّن له الاستمرار.
لقد أصبح واضحاً للإسرائيليين، كما لغيرهم أن خلفية ودوافع مواصلة الحرب الهمجية، مرتبطة بهدف استمرار الائتلاف الحكومي حتى موعد الانتخابات، وبطبيعة الحال فإن الكل يعرف أن عمر نتنياهو السياسي مرهون تماماً بعمر الحرب.
شروط نتنياهو الإضافية تتصل بتجريد القطاع من السلاح، وقبول المقاومة الفلسطينية بالتعاطي مع «خطة ترامب» (للتهجير)، وبقاء جيش الاحتلال في الأماكن التي يحتلها، وبخروج قيادات حركة «حماس» من القطاع.
هذا هو المشروع الجديد الذي قدّمته دولة الاحتلال للوسطاء، وأمهلت «حماس» 48 ساعة للرد عليه. مشروع وشروط خارجة عن كل المشاريع التي جرى تداولها خلال الأشهر الطويلة المنصرمة، التي استغرقتها عمليات البحث عن اتفاق ينهي الحرب على القطاع.
يبدو أن الشروط الإسرائيلية الجديدة، لا تستهدف التوصل إلى اتفاق بقدر ما أنها تستدعي رفضاً من المقاومة، طالما أن نتنياهو متحرّر نسبياً من أي ضغوط خارجية عربية أو حتى أميركية.
بعد أن حصل على مهلة أسبوعين أو ثلاثة من الرئيس الأميركي لا جديد في الأمر، إن استنتجنا بأن كل العالم تقريباً بمن في ذلك الأشقّاء العرب والمسلمون، يتمنّون لو أن بحر غزة يبتلع المقاومة، خصوصاً «حماس»، وكل لأسبابه وذرائعه.
إذا كانت «حماس» رسمياً قد أعلنت أنها تدرس المشروع الإسرائيلي فإن موقفاً صدر عن أحد قيادييها، وعن قيادة حركة «الجهاد الإسلامي»، يعلن الرفض المطلق لمجرد البحث في موضوع تسليم أو سحب سلاح المقاومة.
النص الإسرائيلي لا يتحدث فقط عن سحب سلاح المقاومة وإنّما يشمل ذلك، كل السلاح من القطاع، بما في ذلك الأسلحة الفردية، وأي أسلحة لدى قوى أخرى حتى لو أنها لم تنخرط في عمل المقاومة.
في الواقع فإنّ مجنوناً لا يقبل بمثل هذه الشروط، التي تنطوي على استسلام كامل، واعتراف مباشر، بفشل كل مشروع المقاومة وإدانة من يدعو إليها، ودون أن يضمن انتهاء العدوان والانسحاب من القطاع، وفتح أفق سياسي نحو دولة فلسطينية.
يتجاهل نتنياهو ومن يقبل أو يوافق على شروطه أن مسألة المقاومة والصمود لا تتعلق بالأسلحة، فما لدى المقاومة ليس أكثر من أسلحة دفاعية بسيطة، من صناعة محليّة، وأنّ الأمر يتصل بالفكر، والإنسان الذي يملك إرادة الكفاح من أجل الحرية.
لو كان حسم الصراع مرتبطا بأنواع الأسلحة، لكان على المقاومة أن تسلّم أمرها منذ الأيام الأولى، بالنظر لما تملكه دولة الاحتلال من أسلحة دمار شامل ومن دعم أميركي ودولي مفتوح.
ولأنّ الأمر لا يتعلق بكمية وأنواع الأسلحة والذخائر، التي يمتلكها الخصم، بقدر تعلقه بالإنسان، فإن دولة الاحتلال لا تنوي وقف الحرب العدوانية، إلا بتهجير سكّان القطاع بالكامل.
تعرف دولة الاحتلال، ويعرف كلّ مراقب ولو من بعيد أنّ ما تسبّبت به حرب الإبادة على سكان القطاع، سيخلق جيلاً من المقاومين أشد بأساً، وأكثر إصراراً على الانتقام، بعد أن لم يبقَ في غزة من لم يخسر عائلته، أو أحباءه، أو بيته، أو مصلحته وممتلكاته.
ويعلم التاريخ وتاريخ الشعب الفلسطيني القريب والمعاصر، أن دولة الاحتلال ليست دولة عهود ومواثيق، وأنها حتى لو أرغمت لأسباب على توقيع أي اتفاق، فإنها ستنكص عن ذلك في أقرب فرصة وستعاود العدوان، إن لم تتوفر لها الذرائع فستقوم باختلاقها.
في العام 1982، خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بضمانات أميركية، لكن تلك الضمانات لم تردع دولة الاحتلال عن ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، التي راح ضحيتها أكثر من 3000 فلسطيني ولبناني.
يقودنا ذلك إلى مسألة الضمانات، التي لم يعد أحد يثق بها، خصوصاً أن أميركا هي الضامن الأساسي المحتمل القادر على تقديم مثل هذه الضمانات، لكن أميركا هي الأخرى، تماثل دولة الاحتلال في مدى الالتزام، وقد ثبت ذلك، بالنظر لاتفاق التهدئة الأساسي الذي أطاح به نتنياهو، بموافقة أميركية.
إذا كان صحيحاً أن ترامب الذي يريد التهدئة قبل وصوله إلى المنطقة في زيارة للعربية السعودية بعد أسابيع، فإن ما يجري على جبهة المفاوضات، هو عضّ أصابع حتى كسر العظام.
في هذه الأثناء، يمتنع جيش الاحتلال والإجرام عن التقدم السريع للسيطرة على مناطق أخرى في القطاع، خوفاً من أن يؤدّي ذلك إلى قتل الرهائن، وتقديم خسائر بشرية ومادية في ظلّ تردّي الأوضاع فيه، واتساع دائرة المطالبين بوقف الحرب.
وخلال الصراع التفاوضي، يبدو أن دولة الاحتلال تفكّر في اتباع آلية جديدة لإدخال وتوزيع المساعدات إلى القطاع، بضمان ألا تصل إلى أيدي المقاومة، وذلك للتخفيف من حدّة الضغوط والانتقادات الدولية التي باتت تتحدث عن كارثة الجوع والعطش.
في الواقع فإن دولة الاحتلال تتعامل مع سكان القطاع على أنهم جميعاً منخرطون في المقاومة، وذلك بدليل أن القصف لا يميّز بين مقاوم ومدني، شيخ أو طفل أو امرأة، ولا يستثني مكاناً إن كان مؤسسة صحية، أو خدمية أو خيمة، ولذلك فإنهم كلهم مستهدفون بالقتل أو بالتهجير.
هذه الحرب الإبادية على غزة، لن تتوّقف إلا في حال اتخذت الإدارة الأميركية قراراً صارماً، أو انهار «الائتلاف الحكومي الفاشي» لأسباب داخلية، طالما أنّ أهداف نتنياهو، لا تقف عن حدود تصفية القضية الفلسطينية، ومنع قيام دولة للفلسطينيين، وإنّما تنطوي على أبعاد تتصل بالمنطقة بكاملها.