أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن رسومٍ جمركيةٍ جديدة على جميع شركاء بلاده التجاريين تقريباً، بمن فيهم كندا والمكسيك الجاران الأقرب للولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي الحلفاء الأهم لبلاده، بالإضافة إلى الصين، الند الأهم والأخطر عليها. وقام ترامب كذلك بتفعيل حملة الضغط القصوى ضد إيران التي بدأت في ولايته الأولى، وضد دول أخرى أيضاً. ورغم الاضطراب الاقتصادي الذي يصيب العالم اليوم، نتيجة سياسات ترامب التجارية على وجه الخصوص، والترجيحات بالذهاب لوضع أشد تعقيداً، إلا أنه ليس من المتوقع أن تخرج الولايات المتحدة منتصرة فيها، فأسواق الأسهم الأميركية تتجه نحو الانحسار، والنمو الاقتصادي يتراجع، وتنخفض قيمة الدولار، التي تشكل عملة احتياطية عالمية. فهل تواجه الولايات المتحدة عزلة نتيجة لسياسات ترامب وتتخلخل القوة الاقتصادية الأميركية الفريدة؟
دخل فرض الرسوم الجمركية على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة حيز التنفيذ يوم السبت من الأسبوع الماضي، بنسبة وصلت إلى 10 بالمئة في أكبر سوق مستهلكة في العالم، كما جرى تطبيق رسوم جمركية أخرى أمس استهدفت عشرات الدول الموردة للولايات المتحدة بنسب تراوحت ما بين 10 و49 بالمئة، كان نصيب الصين منها الأكبر. وفرضت الصين رسوماً مماثلة لما فرضته الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة تهدد بفرض رسوم إضافية، إذا لم تسحب بكين رسومها المضادة على الولايات المتحدة، الأمر الذي يرفع مجمل الرسوم على المنتجات الصينية إلى أكثر من 100 بالمئة. إن ذلك يجعل العالم يقف اليوم أمام أزمة اقتصادية خانقة، خاصة أنها موجهة من قبل القوة الاقتصادية الأقوى في العالم، ضد الصين، ثاني أكبر قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة، كما أنها تمس معظم دول العالم التي تتعامل اقتصادياً مع الولايات المتحدة، بما فيها الدول الصناعية الكبرى. وتتجه أهداف ترامب الحقيقية من هذه الحرب إلى إيقاف النمو الاقتصادي للصين، فالولايات المتحدة استهدفت الصين بشكل مباشر، تكشفه نسبة هذه التعريفات المفروضة عليها بشكل جلي. كما تستهدف الولايات المتحدة دولاً شريكة للصين مثل كمبوديا وفيتنام برسوم تصل إلى 49 بالمئة. وتشير التوقعات الأميركية إلى أنه خلال السنوات الخمس القادمة ستتفوق الصين اقتصادياً، الأمر الذي سيشكل خطراً على استقرار النظام الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، فالنمو الاقتصادي الصيني سينعكس على تصاعد قدرات الصين العسكرية ونمو نفوذها الإستراتيجي والسياسي.
وصف الرئيس الأميركي سياساته الحمائية بأنها «يوم الخلاص» و»إعلان استقلال اقتصادي»، معتبراً أن بلاده «تعرضت للنهب والسلب والاغتصاب والتدمير من دول قريبة وبعيدة، حليفة وعدوة على حد سواء»، وأكد أن ذلك التحول سيكون مؤلماً على المدى القصير لكنه مفيد على المدى المتوسط والطويل.
رغم أن توجهاته بتحقيق انقلاب عام على القواعد الاقتصادية التي حكمت علاقة الولايات المتحدة مع دول العالم على مدار ثلاثة عقود ليست جديدة، فقد أفصح عنها في عهد حكمه الأول، إلا أن ترامب قرر أن يبدأ عهد حكمه الجديد الحالي بتنفيذ ذلك الانقلاب. ويبدو أن المنافسة مع الصين، الند الأول والأهم للولايات المتحدة المستهدف الأول لهذه الحرب، وهي حقيقة لا تخفيها الولايات المتحدة، ولا حتى طبيعة التعريفات الجمركية المفروضة. إلا أن ترامب قرر أن يتخلى أيضاً عن الحلفاء، بفرض ضوابط حمائية على تجارة بلاده مع دول العالم، مع التهديد بالتصعيد إذا ردت أي من تلك الدول على تلك الإجراءات العقابية، والتي تتعدى على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والمتعددة التي تربط الولايات المتحدة بالدول الأخرى. في فترته الأولى، أعاد ترامب التفاوض على اتفاقيات تجارة حرة مثل «نافتا»، مكتفياً بتغييرات طفيفة نسبياً. كما فرض أقوى ضغوطه الاقتصادية على الصين، لكنه كان يهدف إلى التوصل إلى اتفاق تجاري نهائي أكثر فائدة للولايات المتحدة. ومع أوروبا، فرض ترامب بعض الرسوم الإضافية لكنه لم يمس جوهر العلاقة التجارية العالمية. أي أنه لم يتخذ خطوات لتغيير النظام التجاري العالمي بشكل جذري خلال فترته الأولى. استمرّت إدارة بايدن في اتباع السياسات الحمائية ضد الصين التي بدأها ترامب في عدة جوانب، فقد أبقت على الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضها ترامب، وفرضت قيوداً جديدة، مثل حظر تصدير الرقائق الإلكترونية إلى الصين في إطار منافسة التكنولوجيا المتقدمة، وسعت إلى تقليل الاعتماد الاقتصادي عليها. لم يستخدم بايدن الرسوم الجمركية كسلاح عقابي ضد الحلفاء، فقد اعتقد أن مواجهة الصين تأتي بالتعاون مع الحلفاء، وذلك بالعمل على إعادة تشكيل قواعد التجارة العالمية بما يخدم المصالح الأميركية. يعتقد ترامب، على الجانب الآخر، أن النظام التجاري العالمي الحالي يضر بمصالح الولايات المتحدة وينبغي تغييره بشكل جذري. وكانت الولايات المتحدة حتى الآن أكبر مستفيد من تحرير التجارة العالمية وكان ذلك مصدر قوة الاقتصاد الأميركي، الذي تحول خلال العقود الثلاثة الماضية إلى الاقتصاد الأكثر اندماجاً مع الاقتصاد العالمي، إلا أن ضعف البنية التحتية الصناعية وانخفاض فرص العمل في البلاد أدى لتصاعد التيار الحمائي في التجارة، الذي يحارب من أجله ترامب.
وتعتقد الحكومة اليابانية أن حليفتها الولايات المتحدة ربما انتهكت قواعد منظمة التجارة العالمية واتفاقهما التجاري الثنائي. واستنكرت أستراليا الإجراءات في حقها، ووصفتها بأنها لا تأتي من صديق. وأكدت أورسولا فون دير لايين، رئيسة المفوضية الأوروبية، على وضع الاتحاد للمسات الأخيرة على حزمة للتدابير المضادة، رداً على الرسوم الجمركية الأميركية على الصلب، إلا أنها أبقت الباب مفتوحاً أمام المفاوضات مع الإدارة الأميركية. وأعلنت برلين أنها تدعم الاتحاد الأوروبي في مساعيه للتوصل إلى «حل تفاوضي» مع واشنطن، لكن دون استبعاد إجراءات مضادة. ولم تستبعد فرنسا وكذلك ألمانيا «استهداف الخدمات الرقمية» في الرد الأوروبي المحتمل. كما لم يستبعد رئيس الوزراء الكندي مارك كارني اتخاذ إجراءات مشابهة، في حين بينما جاء رد بكين الأقوى. وتحاول الصين التعامل مع هذه الحرب بدبلوماسية، فردت على الجولة الأولى من الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب برسوم مماثلة على بعض الواردات الأميركية، وبقيود على تصدير المعادن النادرة، كما مارست نوعاً من التشدد مع شركات أميركية داخل أراضيها، بما في ذلك غوغل. وتعتبر الصين مصدراً لحوالى 60 بالمائة من تلك العناصر الأرضية النادرة في العالم، والتي تُعد ضرورية لمجموعة واسعة من المنتجات عالية التقنية بما في ذلك المعدات الطبية والمركبات الكهربائية والهواتف الذكية. وردّت الصين على الجولة الثانية من الرسوم الجمركية الأميركية بالإعلان عن رسوم مشابهة مضادة. ورغم أنها تفضل التفاهم والحوار وأعلنت عن ذلك في أكثر من مناسبة، يبدو أن الصين مستعدة للصمود، باتخاذ إجراءات أكثر صرامة مع الولايات المتحدة، وإستراتيجيات لامتصاص العواقب داخلياً، فقد سمحت بداية بهبوط قيمة عملتها اليوان، كما بدأت الشركات المرتبطة بالدولة في شراء أسهم الشركات، للحفاظ على استقرار السوق.
بات الاقتصاد العالمي اليوم أمام مفترق طرق: إما احتواء التصعيد عبر الحوار والتسويات لتفادي الأسوأ، وإما المضي في مسار محفوف بالمخاطر، فقد تؤدي سياسات ترامب التجارية إلى حرب تجارية شاملة، وتباطؤ للنمو وحدوث ركود عالمي، ومن المرجح أن تقوم الدول المتضررة من الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة بالرد بفرض رسومها الجمركية على السلع الأميركية، ما قد يؤدي إلى فرض المزيد من الرسوم الجمركية الأميركية، وفتح الطريق أمام حرب تجارية واسعة النطاق. وليس من المتوقع أن يكون هناك رابحون من سياسات ترامب التجارية مع العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. وعندما تصبح الولايات المتحدة شريكا تجارياً غير جذاب للدول الأخرى، سيبدأ البحث عن التحالفات البديلة. بدأت كندا بالفعل في النظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره شريكاً أكثر موثوقية من الولايات المتحدة، وأعلنت اليابان وكوريا الجنوبية والصين عن توثيق التعاون في الجوانب الاقتصادية، قد يعتبر الاتحاد الأوروبي أو المكسيك أن الصين خيار مفيد. بدأت الجبهة الداخلية الأميركية تتململ لمواجهة سياسات ترامب الاقتصادية، حيث سيدفع المواطن الأميركي ثمن تلك السياسات بشكل مباشر، وبدأت بالفعل بعد تصاعد الاحتجاجات في الشارع الأميركي، وقد يكون ذلك مجرد البداية، فقد لا يستطع الشارع تحمل تبعات صدمة ارتفاع الأسعار المتوقعة في الولايات المتحدة.