في السادس والعشرين من شهر آذار 2025؛ نظمت «مؤسسة المرأة الجديدة» في مصر؛ جلسة نقاش للمجلة الإلكترونية «طيبة» ، التي أصدرتها في آب 2024، بعنوان: «النساء وفلسطين والتحرر الوطني»، بمشاركة فلسطينية، وبإدارة رئيسة تحرير العدد: إلهام عيداروس، وهيئة التحرير، وعدد من الكاتبات، ومن عضوات الهيئة الاستشارية.
لم يكن اختيار آذار، لمناقشة موضوع العدد عشوائياً؛ في ظل الإبادة الجماعية في غزة؛ بل كان تذكيراً بوجه آذار النضالي؛ الذي عمّدت فيه النساء الفلسطينيات ونساء العالم نضالاتهن بالدم؛ لتحقيق مطالبهن السياسية والاجتماعية، وتذكيراً في الوقت نفسه بنضال النساء المصريات ضد الاحتلال البريطاني، يوم 16 آذار 1919، ونضالهن السياسي والاجتماعي، في اليوم ذاته، عامي 1923، 1956.
*****
سعدت بتكليفي أن أكون المعقبة الرئيسية على العدد، وكان سؤال التضامن النسوي مع فلسطين؛ يضجّ في رأسي مذ بدأت في قراءته. هذا العدد الذي صدر في خضمّ الإبادة الجماعية في غزة، والتطهير العرقي للفلسطينيين؛ في محاولة التغلب على التحديات التي يطرحها موضوع الكتابة أثناء وقوع الحدث.
ويهمني هنا الإضاءة على بعض ما أثرته في تعقيبي، الذي بدأته بشعوري أن إصدار المجلة، بغنى موضوعاتها، هو تضامن نسوي هام، مع القضية الفلسطينية عموماً، ومع غزة ونسائها خصوصاً.
بيّنت كيف أضاء العدد على قضايا جوهرية متداخلة، وكيف وقف لدى بعض المفاهيم والإشكاليات والتحديات، التي تطرحها العلاقة بين النسوية والسياسة والحرية، حيث ناقش المفاهيم النسوية التي تربط بين العام والخاص، وبين النسوية والتحرّر الوطني، بالإضافة إلى استخدام الكاتبات مصطلحات لا لبس فيها، مثل: الصراع العربي الصهيوني؛ الأمر الذي يدلّ على موقف جذري يشتبك مع المصطلح الاستعماري، وهو الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وتمّ توثيق بعض المصطلحات؛ مصطلح الإبادة الجماعية - الذي صاغه المحامي البولندي اليهودي «رفائيل ليمكين» 1944، واعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة 1948، ودخل حيز التنفيذ 1951-، حيث يتبيّن حين مراجعة بنوده أن الإبادة الجماعية تتواصل في فلسطين منذ عام 1948.
ومصطلح الاستعمار المجندر؛ الذي يتضمن العنف الاستعماري، والعنف الجنسي، خاصة الاغتصاب كأداة فعالة في الحروب. ورغم تجريم العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية 1998؛ لكن العنف الجنسي كان حاضراً في الإبادة الجماعية الأقدم في فلسطين، وفي ناميبيا. وأصبح من الواضح لاحقاً أن هذا العنف يعزِّز الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، ويدعم الهيمنة على الفلسطينيين، والأمثلة عديدة: استهداف الفلسطينيات لأنهن أمهات، حرمان النساء من الوصول إلى المستشفيات، ومن الرعاية الطبية، والإجهاض لقلة الموارد.
لكن إنكار الاغتصاب كان أقل خلال الإبادة منذ أكتوبر 2023: هناك شهادات عديدة عن التحرش اللفظي والجنسي، وشهادات محدودة عن الاغتصاب.
عبر رصد الحياة اليومية للنساء؛ تبيّنت العلاقة بين عسكرة أجساد النساء في فلسطين بعسكرة أجساد النساء في السودان، وفي راوندا، والبوسنة، والهرسك؛ ما يربط النضال الفلسطيني ببعديه العربي والعالمي.
كما اتّضحت العلاقة بين القضية الفلسطينية والتجارب الاستعمارية في الجزائر وناميبيا وجنوب إفريقيا، حيث يوظف المستعمر العنف الجندري خدمة لأهدافه؛ ما يعطي رسالة واضحة: جميعنا مستهدفون؛ الأمر الذي يستوجب النضال النسوي ضد الفكر العسكري.
في السودان يحدث اغتصاب جماعي ممنهج للنساء، وفي غزة يحدث تهديد لصحة النساء الإنجابية، وحياتهن الجنسية؛ يعانين أثناء الدورة الشهرية من ندرة المياه، وغياب الفوط الصحية، فيستعنّ بقماش الخيام، وبقطع من ملابسهن؛ ويحاولن منع أو تأخير العادة الشهرية، عبر تناول حبوب تسبّب مضاعفات صحية، كما يعانين أثناء الحمل والولادة؛ ما يتسبب في الإجهاض، والولادات المبكرة، واستئصال الأرحام نتيجة النزيف الحاد؛ الأمر الذي يستدعي المطالبة باعتماد استراتيجية مساعدات، تتسق مع المخاطر الجسيمة المحيطة بالنساء.
*****
ليس أدق من مصطلحي «جندرة الإبادة»، و»الإبادة الإنجابية»؛ مما استُخدم في العدد؛ لوصف ما يحدث في غزة، حين استهداف أقسام الولادة في المستشفيات، وحين منع الحوامل من الوصول للمستشفيات، وحين تلد الحوامل المعتقلات في زنازين الاحتلال مقيّدات، وحين نشر جنود الاحتلال صورهم، وهم يرتدون ملابس الفلسطينيات الداخلية، في البيوت التي احتلوها.
وليس أدق من مصطلح «العدالة الإنجابية»، الذي تطالب النسويات بتحقيقه، في مقابلة المصطلحين.
حقاً يشكل إفناء النساء وسيلة لتحقيق غاية استعمارية استيطانية، بما أن لديهن القدرة على الإنجاب وعلى إعادة إنتاج الثقافة، كما عبّرت د. نادرة شلهوب كيفوركيان.
*****
كان مهماً الإضاءة على تاريخ التضامن النسوي/النسائي التقدمي مع فلسطين، في المنطقة العربية، بالتركيز على: المؤتمر النسائي الشرقي للدفاع عن فلسطين (1938) - الذي عقد في القاهرة، وتجسّد فيه فهم الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني، والطبيعة الإمبريالية البريطانية -، و»لجنة الدفاع عن الثقافة القومية» (1979-1996)، ونشرتها «المواجهة»، التي ناهضت التطبيع، واعتبرت القضية الفلسطينية قضية مصرية، وليست قضية تضامن شعب مع شعب آخر.
وكان مفيداً القراءة في وثائق قديمة من أرشيف الأمم المتحدة؛ وخاصة قرار إدانة الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري؛ الإنجاز الذي حققه نضال النساء، ونضال الوفد الفلسطيني بالذات، برئاسة المناضلة عصام عبد الهادي، في المؤتمر العالمي الأول للمرأة في المكسيك، عام 1975.
وبالرغم من التراجع عن القرار وإلغائه عام 1991؛ إلاّ أن تسليط الضوء على النضال من أجل انتزاع القرار؛ يعطي مثالاً على القدرة على الإنجاز، كما يعيدنا إلى سؤال يطرح الآن بشدة: ضرورة استخدام الآليات الدولية لفضح النظام الدولي، وأهمية توثيق العلاقة مع الحركة النسوية العالمية، خاصة نسويات الجنوب، والتضامن الشعبي والنسوي مع نضالات التحرر الوطني.
*****
نعم، النضال الفلسطيني لم يبدأ في 7 أكتوبر، والنسوية حركة نضالية تحررية أصلاً، والتضامن النسوي يشكل مخرجاً آمناً وموحّداً كما أكدت د. شيرين أبو النجا؛ تضامن بعيد عن القبلية، وعن السطح، وعن ترسيخ صورة النساء كضحايا، مع ضرورة إنشاء تكتلات تعمل على قضايا مشتركة، وضرورة التشبيك لبناء حركة نسوية، وتحالفات تضامنية قادرة أن تهدم أنظمة القمع المتشابكة، وأهمية بناء حركة نسوية ديكولونيالية عابرة للحدود والقوميات، تنتج المعرفة، وترفض الاحتلال الاستيطاني والإمبريالية والعسكرة جذرياً، باعتبارها أذرعاً فعالة للأبوية والرأسمالية.