لا يحمل تقرير «أمنستي» أي جديد في إشارته إلى ارتكاب إسرائيل لجرائم فصل عنصري بحق الفلسطينيين، فقد تناول العديد من التقارير والمقالات مثل هذه التهم من قبل، منها تقارير لمؤسسات حقوق إنسان دولية وإسرائيلية، ومقالات لمفكرين يهود أو أوروبيين أو حتى إشارات من قبل رؤساء أميركيين سابقين، لكن الجديد أن تأتي مثل هذه الاتهامات من قبل منظمة دولية بثقل ونزاهة منظمة أمنستي بالتزامن مع انكشاف أمر مزيدٍ من المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين خلال النكبة العام ١٩٤٨، وتصاعد موجة العداء لإسرائيل وسياساتها تجاه الفلسطينيين في الجامعات الأميركية وبين شريحة الشباب في الولايات المتحدة. وترتبط القضايا الثلاث بشكل أصيل في الكشف عن تحولات دولية عميقة باتجاه فضح إسرائيل وسياستها العنصرية وتحول العالم عن دعمها.
وكشفت وثائق تاريخية إسرائيلية إبان حرب العام ١٩٤٨، تم الإفراج عنها خلال الأيام الماضية، عن مجازر جديدة ارتكبتها عصابات الحركة الصهيونية والحكومة الإسرائيلية، ترجح الشكوك بارتكاب قيادات إسرائيل لجرائم إبادة جماعية، خلّفت وراءها آلاف الضحايا من الفلسطينيين ومئات آلاف المنكوبين، الذين تم تهجيرهم قسراً عن وطنهم في حينه. وخلال السنوات الماضية، تصاعدت وتيرة تقارير مراكز ولجان حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية التي تشير إلى إسرائيل بأصابع الاتهام لارتكابها جرائم فصل وتمييز عنصري واضطهاد بحق الفلسطينيين، كان آخرها تقرير «أمنستي» قبل يومين، والتي تعكس تحولات سياسية دولية باتجاه رفض جرائم إسرائيل العنصرية ضد الشعب الفلسطيني. وجاءت التحولات التي باتت تشهدها الساحة الأميركية، أكبر الساحات في العالم دعماً لإسرائيل، بتواتر التقارير والدراسات التي ترصد اتساع موجة العداء لإسرائيل وسياساتها في معظم الجامعات الأميركية، وفي أوساط شريحة الشباب في الولايات المتحدة، لتؤكد على اتساق نظرة العالم اليوم تجاه جرائم إسرائيل، وهو الأمر الذي بات يشكل هاجساً حقيقياً لها.
لا يعتبر الحديث عن ارتكاب إسرائيل لجرائم الفصل والتمييز العنصري والاضطهاد أمراً حديثاً، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي بدأت الإشارات إلى هذا النوع من الجرائم والذي ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين، من خلال كتاب ومفكرين فلسطينيين وأوروبيين ويهود، إلا أن تلك الإشارات بدأت تأخذ شكلاً أكثر جدية عندما بدأت تقارير مؤسسات حقوق الإنسان الدولية والإسرائيلية برصد وفحص هذا النوع من الجرائم بشكل أكثر احترافاً. وتعود أهمية هذا النوع من التقارير إلى أنها طورت مقاربة قانونية، توصف هذا النوع من جرائم إسرائيل، وذلك بتحديدها وجمعها بشكل تدريجي ومواءمة شروط انطباقها مع القانون الدولي الذي يعتبرها جرائم ضد الإنسانية.
جاء تقرير «أمنستي» الأخير الصادر مطلع الشهر الجاري، بعنوان «نظام الفصل العنصري الإسرائيلي: نظام قاس يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية»، منسجماً أيضاً مع تقرير مؤسسة «هيومن رايتس ووتش» الأخير، وهي مؤسسة دولية غير حكومية ذات مصداقية عالية ومقرها في نيويورك، والذي صدر في نيسان الماضي، وكان بعنوان «تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد»، حيث بلور التقريران رؤية شبه متكاملة لطبيعة هذه الجرائم ونطاقها. واعتبر التقريران أن جرائم الفصل والتمييز العنصري والاضطهاد ترتكب على أساس معاملة الفلسطينيين كمجموعة عرقية بشكل أدنى مرتبة مقارنة باليهود، الذين يعيشون جميعاً في ذات المكان. وتأتي تلك المعاملة العنصرية بشكل ممنهج من قبل حكومة واحدة، ممثلة بالسلطات الإسرائيلية، ضمن نطاق مكاني يمتد من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، أي بما يشمل أراضي ١٩٤٨ وكذلك الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧، بما فيها الضفة الغربية ومدينة القدس وقطاع غزة. كما شمل التقريران معظم الجرائم المنضوية تحت ذات العنوان سواء كانت الهدم ومصادرة الأراضي والتضييق لإجبار الفلسطينيين على الإخلاء القسري وإحلال المستوطنين اليهود محلهم، في الضفة الغربية والقدس وكذلك في صحراء النقب، بالإضافة إلى التمييز العنصري بين الفلسطينيين واليهود في ظل الإخضاع لقوانين متباينة في إطار تملك الأرض والبناء وممارسة المشاريع الاقتصادية، وحرمان الفلسطينيين من استخدام طرق وشوارع مخصصة فقط للطرف الآخر، وحرمان الفلسطينيين من استغلال الموارد الأساسية في أراضيهم المحتلة، بنفس الطريقة التي يستفيد منها المستوطنون اليهود.
بنت المنظمتان معلوماتها انطلاقاً من التشريعات العنصرية الإسرائيلية وسياسات ومخططات الحكومات الإسرائيلية المختلفة، والتي تمحورت حول منح اليهود امتيازات على الفلسطينيين، في جميع المناطق الممتدة من البحر إلى النهر، في سبيل تقليص الوجود الفلسطيني عموماً. اعتبر تقرير «أمنستي» أن نزع الملكية من الفلسطينيين ونقلهم من أماكن سكنهم يمثل حجر الزاوية في نظام الفصل العنصري. واستطاع التقرير تعميم هذه المقاربة في جميع المناطق على الفلسطينيين، ابتداء من إجراءات إسرائيل بالهدم والمصادرة والتضييق على السكان الفلسطينيين البدو في النقب، ومروراً بالقدس ومحاولة طرد الفلسطينيين من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم كما يحصل الآن في حي الشيخ جرّاح، وانتهاءً بالضفة الغربية وإجراءات المصادرة والهدم التضييق، خصوصاً في المناطق المصنفة «ج».
كما شمل التقرير التمييز بحق سكان قطاع غزة، مستشهداً بآليات تعامل السلطات الإسرائيلية مع مسيرات العودة السلمية على حدود القطاع، بقتل ٢١٤ فلسطينياً منهم ٤٦ طفلاً. وركز تقرير «هيومن رايتس وتش» على جدار الفصل العنصري الذي أقيم من خلال نظام وصفه التقرير باستعماري احتلالي جسد مفهوم الفصل والتمييز العنصري. كما ركز التقرير على مقارنة آلية قمع السلطات الإسرائيلية لتظاهرات الفلسطينيين في الضفة والقدس واللد أثناء حرب غزة الأخيرة، مع تعامل ذات السلطات مع اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين خصوصاً في مدينة اللد أو حتى في الضفة الغربية. ووصف التقرير ممارسات إسرائيل بغير الإنسانية.
جاءت هذه المقاربة شبه المتكاملة في التقريرين السابقين لرصد جرائم إسرائيل الخاصة بالتمييز العنصري والاضطهاد كمحصلة لتقارير سابقة سبقتها، وساهمت في تطويرها. على سبيل المثال، اعتبر تقرير لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان «بتسيلم» عام ٢٠١٠ أن تقسيم الطرق والشوارع في الضفة الغربية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بحيث يمنع الفلسطينيون من المرور في شوارع مخصصة فقط للإسرائيليين شكل من أشكال التمييز العنصري.
كما وصف تقرير للجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا في الأمم المتحدة «الإسكوا» عام ٢٠١٧، ممارسات إسرائيل في الأراضي المحتلة بالفصل العنصري، ودعت لإحياء لجنة ومركز الأمم المتحدة المتخصصين بمناهضة الفصل العنصري، واللذين توقف عملهما منذ العام ١٩٩٤. واعتبر تقرير لـ «بتسيلم» عام ٢٠١٩ أن ممارسات سلطات الاحتلال في مدينة الخليل ترقى لمستوى جرائم الفصل العنصري الممنهجة، لأنها تعمل على تحويل البلدة القديمة إلى مدينة أشباح، من خلال إجبار السكان الفلسطينيين على تركها، ونصب أكثر من ٢٢ نقطة عسكرية ومئات الكاميرات لتقييد حركة السكان وتعطيل مسار حياتهم اليومية. واعتبر تقرير منظمة «هناك عدالة» الإسرائيلية عام ٢٠٢٠، والذي جاء بعنوان «الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وجريمة الفصل العنصري: وجهة نظر قانونية»، أن نظام فصل عنصري في الضفة الغربية جاء نتيجة تعامل السلطات الإسرائيلية بمنظومتين قانونيتين متباينين، الأولى مدنية يتعامل في إطارها المستوطنون اليهود ويشاركون في بنائها من خلال تمثيلهم أو تأثيرهم في الكنيست، والأخرى عسكرية مفروضة على السكان الفلسطينيين، بحكم واقع الاحتلال وإجراءاته.
إن ذلك يعتبر نوعاً إضافياً من الجرائم التي تمكن الفلسطينيين من محاسبة إسرائيل عليها، فمنذ العام ١٩٦٦، بدأت الأمم المتحدة تنظر إلى الفصل العنصري كجريمة ضد الإنسانية، إلا أنه تم تثبيت ذلك في نطاق اتفاقية الفصل العنصري الصادرة عنها عام ١٩٧٣، وهو الأمر الذي أعادت المحكمة الجنائية الدولية التأكيد عليه في ميثاق روما الأساسي المشكل للمحكمة عام ١٩٩٨. وفلسطين طرف في كلتا الوثيقتين، وقضت المحكمة الجنائية الدولية مطلع العام الماضي بولايتها القضائية على الجرائم الدولية الجسيمة المرتكبة في الأراضي المحتلة، والتي يعتبر الفصل العنصري كجرائم ضد الإنسانية واحدة منها، خصوصاً مع توفر العناصر الرئيسة التي حددتها التعريفات والمتعلقة بمعنى الفصل العنصري والاضطهاد، والواردة في اتفاقية الفصل العنصري ونظام روما الأساسي على التوالي، والتي يشكل وجود النية الإسرائيلية للحفاظ على نظام الفصل العنصري أساساً لها، كما يتوفر أيضاً القمع المؤسسي، الذي تدعمه القوانين والتشريعات الإسرائيلية، مثل قانون المواطنة للعام ٢٠١٨ وقانون الاستيطان للعام ٢٠٢١، وغيرها، هذا بالإضافة إلى وجود القمع المنهج، الذي تدعمه سياسات السلطات الإسرائيلية على الأرض. إلا أن حاجة الفلسطينيين إلى تكثيف العمل والجهد لفضح إسرائيل عبر جميع الأدوات الإعلامية والمعلوماتية الممكنة، يعتبر الطريق الأمثل الآن، والذي سيقود يوماً لمحاكمة إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها بحق الفلسطينيين، خصوصاً أنه لم تجر بعد محاكمة أي جهة متهمة بمثل هذا النوع من الجرائم.