الكوفية:ستذهب خطواتنا، بحكم العادة إلى قبر الماء، مثلما كانت تدبّ نحو المهابة والعناد الباسم، المؤمن بالقدر، وبأنّ حياته سياسة وموته كذلك! ولم نتخيّل، كأحد أساليب الدفاع الآلي، بأنه سيعود لهذا الهدير المنفجر بكاءً وخسارة.. وخوفاً من الغامض المتربّص، لكنه عاد، مثلما ذهب، راضياً مرضيّاً، تشيّعه ثلاث قارات، وترفعه دول المعمورة على أكتافها وهي تنكّس أعلامها إعلاناً عن الغياب الباهظ، الذي ظل واقفاً، وحده ربما، أمام غطرسة وحيد القرن، ودَهْم قواته الساحقة، وصلافته الجبّارة الكونية. والرجل راح وعاد وهو محمول على الشهداء، والجرحى، والمسجونين خلف العقرب المخاتل، والعرايا الذين استشهدت بيوتهم، وأولئك الذين نزفوا مع أشجار الطير والرُّضَّع، أو الذين ما فتئوا في بيت العزاء منذ قرن يقفون على بوابات المخيم يحملون مفاتيح الرّمانة والبيت العتيق.
لقد كان دم القتلى في صوته، والنار السائلة تخرّ في شرايينه، والحنّاء غبار الجدران على يديه.
كان أليفاً إلى حدّ العاديّة واللّمز، وصعباً إلى درجة أنّ سكين الاحتلال قد افترعها حتى وصلت نخاعه وصفائحه، ولم يمهر وثيقة موتنا المُعدّ منذ عقود بذَهب الناس الذين سكنوه، وبصلوات الأرض التي كوّنته وصار راهبها العاشق الوحيد.
وظلّ الرجلُ محتفظاً بصبا الغابات، وصيرورة الموج الحلو، من الجبال إلى الموانئ، حتى السّجْدةِ اليانعة على الرمل الموعود بالعُشْب والنشيد والحجر.
يبدو عادياً، لأنه البعيد الرائق، الذي يَمدّ الينابيع في ظهيرة الظمأ.. لتُمرع نايَ الأعراس في أماسي البلاد. تراه راسخاً لأنه سيف المتراس، يفهق بين الجمرة والجرح، ويظلّ قَنطرةً للصغار والدوالي.
غُصن يديه سُلّم النجمة العاشقة، وصوته ممحاة العتمة الثقيلة، وبصيرته تتجاوز الغابة السائرة إلى القلعة.
خجله لوزة الجبل. فيه نسغ الرحمة والأعياد. تسمع خرير وجيبه كلّما سقط شهاب، أو عثرت فرس عند سواتر النار. فيه تواضع السلالة المستحيلة، وعفو اليمامة المستوحشة.
دمعته زهرة ليمون، وابتسامته ثوب النهر. هو عاهل العاصفة، وغارس أغصان القَسَم. يتفتّح في ليل الزنجبيل، ويعلو على رغوة الكلام. لا تهزّه الحوادث، ويمسك بإصبعيه غُرّة الأرض.. ولن يتركها حتى الساهرة، أو فليأتِ أمرُها، ليلاً أو نهاراً. ثالث اثنين؛ الفاروق وصلاح الدين. محمولٌ على باشق الحق. وثالث الأثافي الباقين في وجه الطوفان المستبيح.
يكره الرمل وأشباه الصور، ولا يسمع إلاّ مساجلة النجوم، وتجاوز السؤال فأصبح ضلعاً في كل بيت. يليق بنا، ونليق به في المواسم الصعبة.. ونبقى نُحبّه!
كان وقته يتّسع لحوار الرماد المعقّد، ولالتقاط الصورة المبذولة من دون تمييز.. سواء بسواء. وكان بقلمه القاني وأوراقه الكثيرة يعطي أمره للدنيا، ليلاً أو نهاراً، حتى قاربت على الواقعة المذهلة.
أباً بالفعل والمجاز كان، عطاءً وتسامحاً، حتى أعجز معارضيه، وجمع المتجاذبين على اختلاف ألسنتهم ووجوههم. لم يتعالم ولم يكمّم السادر في غيّه أو غضبه، يعطي المعادلة موازنتها حتى تتمّ، مثلما يقبّل يد الجريح وجبين الثاكل أو يحمل الصغار في حجره كأنهم أكثر من صُلْبه. ولأنه كان يصنع التاريخ ولم يكن غباراً على صفحاته. عرف جيداً أهمية الثقافة التي منحها كلَّ أرض العفو، وحرية فطريّة جعلتها تتنفّس بعمق على رغم أنهم أدرجوها في قاع الأجندة، وكانت، في أفضل حالاتها، أكسسواراً للدولة!
في أبي عمار جناح الملاك الخالص، وفي جيبه دفاتر السوق، ما جعله يسير على صخر الهواء، وينجو من فخاخ الأقربين وطعنات الأسمنت والحاملات، وظلّت الراية في يده يحقق من خلالها تجميع الشظايا لتكون ترساً صلباً في وجه الدفن والإلغاء، فأصبح خارقاً في قدرته على قدْح هذا البرق في يباب الشتات، وإنزال غيماته في حريق البلاد الواسع. لقد صاغ أسطورته الملموسة الماسية من نثار الاحتمال فوق البشري، والإدراك المستشرِف والقلب الشجاع الواسع.. لقد كان جريئاً كالموسيقى!
ياسر عرفات؛ الوالد القائد الصديق الذي راوغ الموت ونوازله في كل المنازل، ترك لنا يديه اللتين ترفعان سقف دارنا من القدس إلى العودة، دون أن تخبو جمرة الحلم في المدارك الطالعة وأناشيد المدارس.. لكن أعداءه منا سيلاحقونه ليدلحوا السواد على يديه البيض من غير سوء، وسيبحثون عن قدٍّ في قميصه الشريف، وسيغرزون على شفتيه ذبولهم المريب.
وقوة الرجل من ضعف شركائه أو لغيابهم العميق، وثغرة سلطانه في بطانته البرمكيّة، وفي المسؤولين الذين اشتطوا في تبنّي مقولات النقيض، ما جعلها ثقلاً جديداً ينوء به الظَهْر الفلسطيني.
وقوة ياسر عرفات الزائدة، هي التي غطّت على المؤسسة برمّتها، فكانت أكثر حضوراً وسطوعاً، وهذا ما يفسر الكثير من التعويم والنتوءات والفوضى، كما يفسر هشاشة المحيطين به وضآلة تأثيرهم، وذهابهم نحو الخلاص الشخصي، بدل البحث عن صيغة عمل ينهض على المؤسسة والقانون، لقد كانوا أنانيين أو هامشيين، وكانت قوّته تشبه ضعفهم إلى حدّ كبير.
أما أعداؤه فقد خافوا مكره ونفاذ بصيرته فحاصروه ميتاً كما حاصروه حيّاً عندما وصل إلى أنْ ضرب بقبضته على بوابات القدس التي لا تبعد سوى نبضةٍ عن “المقاطعة” التي حاصرهم هم، أيضاً، منها، وشلّ كلَّ خيوطهم، وعمل على تقطيعها والحيلولة دون اكتمال النسيج الخانق، الذي كان يستهدف جَدْل حبل المشنقة له أو لفلسطين، لا فرق!
وعبقرية ياسر عرفات؛ كبش فلسطين المُكحّل، أراها في تمكّنه من غرس بذرة الدولة في أرض الدولة، على رغم وجاهة الرأي الآخر.. لكنها بذرة لن تموت، وستشرب الكثير من دمنا، على ما يبدو، حتى تمرع وتكبر.. وتظلّلنا! وبالتأكيد لن يتمّ ذلك تحت شعارات القُطْرية المنتحرة، أو الانغماس في بحر الأعداء مهما بدا صافياً وناعماً، فالقوي لا يناقش، بل يفرض ولمصلحته! والحوار يكون بين الأنداد، وليس بين السادة والعبيد، أو الضحية وجلاّدها، والشمس لن تغطّيها شمس أمريكا ودولة الاحتلال.
وياسر عرفات الذي أظهره أعداؤه عقبةً كأداء، بعد أن فرضوا علينا “الحلّ” و”البديل”، وبعد أن شوّهوا بديلنا الوطني، وعملوا على القضاء المبرم عليه، وبعد أن أقنعوا الكثيرين بأن احتجاجنا سيبهظنا أكثر، لنكون ضحايا إيجابيين! سيواصلون إقناعنا بأن نخيط أكفاننا بأيدينا، وأن نبدّل قاموسنا وروحنا وشكلنا، وأن نقطع استطالاتنا لنليق بما فصّلوه لنا من أثواب التابوت، وربما سيجدون، من بيننا، مَنْ يتماهى معهم، ويكون مجلساً يحكم بمشيئتهم التي لا تصادر ثرواتنا، بل ومستقبلنا أيضاً، بعد أن رتّبوا الإقليم المحيط، وأطبقوا على عنق الأرض، وسينسون، كالعادة، أن شعب الجبّارين الذي أصّله “الختيار” قد أنبت هذا الرجل الذي تناسخت منه المدن والقرى والنجوع والسقائف.
أما المشهد الثقافي بعد رحيل “الختيار” فنحن سنبقى، ننتمي إلى هذا الشعب المستند إلى أمّته وحضارته، ونمسك على شوك حقوقه الكاملة المشروعة. وعليه، فإن على المثقفين الفلسطينيين أن يؤكدوا، بصورة حاسمة وقاطعة ومطلقة، بأن قضيتنا الفلسطينية قد تنتكس، وربما تُحاصَر، وقد تخبو المقاومة، ويزداد الرغاء، ولكنها قضية ماضية إلى أن تتطهّر البلاد من وطأة شُذّاذ الآفاق، وتعود خالصةً فصيحةً بألوانها المحددة، وعمقها العروبي الإسلامي، وأفقها الإنساني الذي تقوده السيدة العمياء “العدالة”، بعد أن تسترد بصيرتها، وبعد أن نرمي قمصان شهدائنا على وجهها النهار، ونستذكر في بيوتاتنا وصفوفنا رجلاً أعطى عمره، غير منقوص، لهذه الثاكل الحامل فلسطين، وعندها؛ لا بأس من المبالغة المحتملة بأن نقول: كان لنا صديقٌ مرنٌ، وحميمٌ إلى حدّ القشعريرة أو شدّة القرب.. من دون حجاب، وكان اسمه ياسر عرفات.
كما أن على المثقفين أن يواصلوا التخطيط الاستراتيجي الثقافي واجب الوجود، وأن يستمروا في تقعيد مؤسساتهم وإنهاضها، وأن يوحّدوا عملهم ضمن التعددية التي تُثري وتبعث وتوصل المعرفة، وتعمّق المفاهيم والثوابت، وكل ما هو استراتيجي ينتمي إلى الحق الكامل والعدل، وليس إلى الممكن الذي يختزل الحقيقة والحق، من دون السقوط الساذج في خطاب السياسي، أو التبرير له أو اللحاق الباهت به. وعلى المثقف ألاّ يعيد إنتاج اللحظة، أو الخضوع لموازينها الظالمة المرحلية، أو الركون إلى أشكال العمل النمطية التي ينبغي تخطّيها.. وإلى الأبد. وعلى المثقفين الفلسطينيين أن يتذكّروا دائماً، وإلى دهر الداهرين، أن الحرية وحقوق المثقفين لا تُعطى ولا تُمنح ولا تتجزّأ، وأن عليهم أن يقبضوا من فولاذ على مملكتها الشاسعة، وأن يظلّوا في فضائها النبيل، مهما ترنّمت فيها القيود، أو امتد النطع أو الوعيد، وأن يعوا أن استشهاد ياسر عرفات كان، ربما، ليتعلموا الدرس الأكثر أهمية وخطورة، شرط ألاّ يكون درسهم الأسوأ، لأنه سيكون الدرس الأخير!