في الفترة الأولى من وصول فيروس كوفيد 19 «كورونا» الجديد إلى فلسطين تباهينا بأننا استطعنا السيطرة على الفيروس ومنعنا انتشاره وحتى إجازة عيد الفطر، وبعد مرور ثلاثة شهور على إعلان حالة الطوارئ كان عدد الإصابات بالفيروس 643 حالة وعدد المتعافين 532 أي حوالي 83% من الإصابات وعدد الوفيات خمسة مواطنين. ومرت علينا أيام لم تسجل فيها إصابات إلى درجة أن الحكومة أعلنت انتهاء الإغلاق في يوم 26/5/2020، وعادت الحياة إلى طبيعتها نسبياً باستئناف العمل في المؤسسات الحكومية والرسمية، وتم فتح المساجد والكنائس وفتحت المدارس والجامعات أبوابها بدون الطلاب، وفتحت المحال التجارية والمصانع والورش والمقاهي والمطاعم وكل المؤسسات ولكن بشرط الالتزام بقواعد السلامة العامة بالحفاظ على ارتداء الكمامات والقفازات والتباعد الاجتماعي. ولكن بعد أيام قليلة من رفع الإغلاق بدأت موجة جديدة من الإصابات والانتشار السريع للفيروس في أوساط المواطنين في مختلف المحافظات وخاصة في محافظة الخليل، ووصلنا في أقل من شهر ونصف إلى أكثر من 7734 إصابة منها 6372 حالة نشطة وبلغ عدد الوفيات 47 مواطناً. وهذا وضع خطير ينذر بكارثة كبيرة.
عندما حاولت الحكومة الحد من انتشار الفيروس بالعودة للإغلاق وقامت بإغلاق لمدة عشرة ايام وأعلنت تمديدها لأربعة أيام أخرى، بدأت الفوضى تدب في الشارع من خلال احتجاج التجار ورجال الأعمال، ما جعل المحافظين تباعاً يعلنون فتح محافظاتهم خلافاً لموقف الحكومة. وهذا في الواقع موضوع يدعو للدهشة، فهو من جانب يحرج الحكومة ومن جانب آخر يدخل الجميع في تناقضات قد تؤدي إلى حالة من الفلتان وعدم الانضباط. خصوصاً وأن الخلاف يأتي في المستوى الرسمي وليس بين المستوى الرسمي وقطاع الأعمال فقط.
الوضع الاقتصادي الفلسطيني يعيش حالة من الركود والصعوبة بسبب «الكورونا» وأيضاً بسبب وقف العمل بالاتفاقات مع إسرائيل وعدم استلام أموال المقاصة. ومن الطبيعي أن تشكو كل القطاعات الاقتصادية من هذا الوضع وتحاول العمل من أجل فتح البلاد والعودة للانتاج والعمل من جديد وتحريك عجلة الاقتصاد. والحكومة من جانبها تريد ذلك ولكنها أيضاً تخشى من الوضع الصحي المتدهور وتحاول الموازنة بين رفع الإغلاق وبين الحفاظ على حياة الناس، وهي في وضع لا تحسد عليه بسبب ذلك.
لا يمكن فهم أن تتخذ الحكومة قراراً يجري خرقه والتنصل منه بعد ساعات وجيزة من إعلانه. وكان من الأنسب لو كان لدى الغرف التجارية والقطاعات الاقتصادية أي شكاوى ان تلجأ للحوار مع الحكومة ربما بتدخل المحافظين، وكان يمكن للحكومة أن تتراجع أو تعدل قرارها بعد يوم أو يومين من بدء التنفيذ. فما حصل هو مساس بسلطة الحكومة ومحاولة لإحباطها وتجاوزها حتى لو كان ما تم حصل بحسن نية.
في الواقع هناك تمرد على قرارات الحكومة في الفترة التي أعقبت رفع الإغلاق، وهذا تبدى في عدم الالتزام بقواعد السلامة العامة والاختلاط الكبير الذي حصل في الأعراس والمآتم والتجمعات، وكأن التعليمات الخاصة بالوقاية من الإصابة بالفيروس هي ضد مصلحة الناس وأن معارضة الحكومة أو السلطة موضوع سياسي لا علاقة له بحياة من يقوم به. وهنا تختلط دوافع وأسباب الخرق، فمنه ما هو مقصود للمساس بالحكومة وتحطيم صورة النجاح الذي حققته، ومنه ما هو تعبير عن الجهل والتخلف واتباع لتقاليد عائلية تعتبر أهم من حياة البشر، ومنه ما هو نابع من الالتزام بتعاليم بعض الجهات الدينية التي كانت تشكك بوجود الفيروس وبعضها يعتبره مسألة إيجابية وابتلاء من الله لا يمكن فعل شيء ضده وما يكتبه الله هو الذي سيحصل مهما فعل البشر، ومنها عدم المبالاة وتجاهل ما يدور حولنا.
صحيح أن المصالح الاقتصادية لها أهمية كبيرة في حياة الناس، وبدون دوران عجلة الاقتصاد لا يستطيع الناس تلبية احتياجاتهم، وهناك ضائقة حقيقية في هذا الشأن، ولكن الحياة بحد ذاتها أغلى من كل التفاصيل، ومحاربة انتشار «الكورونا» تعني الحفاظ على حياة البشر وكل شيء يأتي بعد الحياة كقيمة أولى. وإذا كان الناس معنيين بالعودة للحياة الطبيعية فمن باب أولى الالتزام بما يحافظ على حياتهم ولا يهدرها لأي سبب كان.
بطبيعة الحال لا يمكن التعميم، وهناك كثير من المواطنين الذين التزموا وطبقوا قواعد السلامة بلبس الكمامات والتباعد الاجتماعي، وهذا ما منع الانتشار بصورة أكبر بكثير مما شهدنا اليوم، ولكن إذا استمرت هذه الحالة من عدم الانضباط سنذهب نحو وضع كارثي وضرر ذاتي لا داعي له. وإفشال الحكومة لا يمكن أن يخدم أحداً خصوصاً في هذه الظروف التي نعيشها والتي لا نواجه فيها «الكورونا» فقط، بل والاحتلال الإسرائيلي ومشروع الضم الذي يهدد مشروعنا الوطني وحقوقنا المشروعة. وسيكون من الصعب علينا أن نواجه السياسة الإسرائيلية العدوانية و»الكورونا» تنخر مجتمعنا وحالة الفلتان الضارة قائمة. بل إن المصلحة الشخصية الذاتية والوطنية العامة تقتضي أن نتوحد ضد «الكورونا» كما ضد الاحتلال ولنختلف ونحل خلافاتنا بالحوار والعقل.
الأيام