- صفارات الإنذار تدوي في عكا وحيفا وبمستوطنات بالضفة
يتبادر الى ذهني باستمرار السؤال التالي:
ماذا لو قامت الثورة السورية وأبو عمار على قيد الحياة؟!.
هل كانت مواقفه وردود أفعاله مما يجري في سورية بين شعبها وطاغيتها، إبن حافظ الأسد كالمواقف التي اتخذها خليفته محمود عباس، وبقية قادة الفصائل من الثورة السورية ..؟
وكنت دائما أنتهي إلى استحالة أن تكون مواقف خلفائه كمواقفه من سورية نظاما وشعبا، لأن هذه تحتاج شجاعة لا تتوفر لهم، وزعامة بحجم زعامة عرفات، بل انني كنت أنتهي الى القطع، بأنه كان سيؤيد الشعب السوري في ثورته، تأييدا مطلقا بلا تردد، بناء على معرفتي بما يكنه من محبة للشعب السوري وخصوصية في العلاقة.
هذه النتيجة التي أنتهيت اليها دائما، نابعة من فهمي لطريقة تفكير طائر الفينيق الفلسطيني ياسر عرفات الذي أحيا شعبه من رماد نكبة 1948، وما يكتنف علاقته المضطربة والمتوترة مع حافظ الأسد. ولأن الشخصين غادرا الحياة منذ سنين طويلة فإنني سألقي الأضواء على بعض الجوانب المجهولة من علاقات عرفات – الأسد.
كان الزعيم الفلسطيني الراحل متعدد المواهب، جمع على نحو خاص بين مقدرتين متناقضتين، الأولى مقدرته أن يكون ثوريا نبويا، كأي فدائي لا يساوم على فلسطين. والثانية مقدرته أن يكون براغماتيا عملانيا الى درجة المكيافيلية، في سلوكه السياسي وحركيته على الساحة الدولية الى حد قد تظهره أحيانا متناقضا. ولولا هاتان الموهبتان، ما استطاع "الختيار" الداهية السير على رؤوس اصابعه ، على حبال مشدودة ورفيعة بين القادة العرب (الأخوة الأعداء)، ومحاورهم المتناقضة ، وصراعاتهم البدوية. وأجاد بمهارة السير على الحبال المشدودة ، ورقص عليها أيضا ! واستطاع دائما التنقل ببراعة من أقصى العداء الى أقصى العناق .
في علاقته المعقدة والمضطربة بسورية والسوريين ، وتعامله الضروري مع طاغيتها الأقوى حافظ الاسد خلال ثلاثين عاما إحتاج الداهية لتوظيف كل مهاراته ليحافظ على "شعرة معاوية" مع حافظ الأسد الذي كان يتبادل معه الكراهية والتوجس والشك .
كانت كيمياء الرجلين مختلفة ، منذ البداية. في عام 1965 أمر وزير الدفاع السوري اللواء حافظ الأسد ورئيس الاستخبارت العسكرية اعتقال مؤسس فتح في دمشق، وأفرج عنه بعد عدة أيام ، ولكن الحادثة تركت جرحا غائرا في صدره .
والحادثة الثانية أن حافظ الأسد اتخذ موقفا أقرب للنظام الأردني في حرب أيلول الأسود، بينما كان بقية القيادة السورية مؤيدة للفلسطينيين وتريد التدخل العسكري، دعما لهم، لكن وزير الدفاع ورئيس أركانه مصطفى طلاس رفضا التدخل، وكانا ينسقان مع نظام الاردن عبر رئيس حكومته وصفي التل ( عديل طلاس) !
وكان الخلاف على الموقف من أيلول الأسود من أهم عوامل انقلاب الأسد على رفاقه بعد شهرين (في 16 نوفمبر 1970)
وتعمق التناقض بين الغريمين الداهية والطاغية بعد انتقال قيادة الثورة الفلسطينية من الاردن الى لبنان. وبلغ مداه بدخول الجيش السوري عام 1976 والصدام العسكري الذي بين الطرفين في الجبل وبيروت وصيدا ، وسقوط عدد كبير من القتلى من الجانبين ، ويروي ياسر عبد ربه أن الاسد اعرب عن غضبه الشديد لعرفات في أحد لقاءاتهما ، بينما كان ما ارتكبه جيش الأسد في تل الزعتر أشد وأقسى .
في تلك الفترة كانت علاقات الغريمين يحكمها عاملان : أولهما محاولات الأسد المتكررة للسيطرة على قرار منظمة التحرير، للتحكم بالورقة الفلسطينية ، عبر ما سماه الأسد (الوحدة السورية – الفلسطينية)، وهذا ما كان يرفضه أبو عمار مطلقا، وجاهز دائما للقتال دفاعا عن القرار الوطني المستقل، لأنه مبرر شرعيته، وصميم السياسة الفلسطينية التي يقودها عرفات شخصيا.
وثانيهما صراع السيطرة على لبنان. فعرفات تحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية ، ذات التوجهات ( اليسارية والقومية ) بقيادة كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي، وكان هذا الحلف في الواقع معاديا للنظام الأسد من قبل تدخله في لبنان. وتحالف الأسد مع القوى الانعزالية المعادية للحركة الوطنية، وتدخل في لبنان ، بناء على تفاهم واتفاق مع اسرائيل والولايات المتحدة .
هكذا تراكمت ملفات الخلاف بين عرفات والأسد وتعمقت التناقضات ، واستحكم بين الرجلين عداء مستمر، يختفي تحت غشاء رقيق من السياسة والمجاملة الضرورية في علاقات القادة. على سبيل المثال اعتقلت الاستخبارات السورية في تلك الفترة مئات من الشخصيات الفلسطينية الفتحاوية في سورية بتهمة الانتماء لفتح والولاء لعرفات فقط، وتطور الصراع بين الطرفين، الى أن وقع الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وكان الاسد يعلم به مسبقا، ولم يخبر عرفات به. وبعد انسحاب منظمة التحرير من لبنان الى تونس رفض ابو عمار الخروج عبر دمشق، وخرج بحرا مرورا بأثينا حيث استقبله اندرياس باباندريو استقبالا يليق بزعيم اغريقي اسطوري . فغضب الاسد وحرض عصاباته على شق حركة فتح، بواسطة أبو موسى وخالد العملة، ومهاجمة بقايا خلاياها في لبنان بواسطة أحمد جبريل، فعاد عرفات الى لبنان وقاتل السوريين وعملاءهم في طرابلس، قبل أن يخرج ثانية بوساطة فرنسية جديدة، وفي الأعوام التالية وقعت قطيعة طويلة ، لم تنته إلا بعد الانتفاضة 1988. وفي الأعوام التالية بعد اتفاق أوسلو في أيلول 1993 تعرض ياسر عرفات لعملية طرد رسمية وعلنية من دمشق. وقال الفلسطينيون إن عرفات تعرض لأكثر من محاولة اغتيال من قبل السوريين بأوامر مباشرة من الأسد.
ظلت علاقات الجانبين مغمسة بالدم على مدى 35 سنة ، كانت علاقات كل من الرجلين تتوتر مع أطراف عربية عديدة، ثم تصفو، إلا أن علاقات عرفات والأسد توترت ولم تصفُ أبدا بعد ذلك، لأن خلافاتهما وتناقضاتهما كانت في الواقع موضوعية واستراتيجية. ولعل أبلغ دليل على استحالة صفائها هو ألعبارات السوقية البذيئة جدا التي أطلقها العماد مصطفى طلاس في خطاب علني ضد ياسر عرفات. في أواخر حياة حافظ الأسد.
ويروي حارسه الشخصي محمد دية للبي بي سي كيف أراد أبو عمار المشاركة في وداع وتشييع الأسد بعد موته عام 2000 فرفض بشار، وربما كان أول قرارته رئيسا لسورية، وخشي عرفات إن ذهب بدون موافقة أن تقصف طائرته. فلجأ عرفات للرئيس مبارك، طالبا منه اصطحابه معه في طائرته لدمشق، فوافق مبارك، وفوجىء السوريون بوصول عرفات غير المرغوب به . وعندما انتقل الى القصر لالقاء نظرة الوداع على جثمان الأسد، وانضم الى القادة العرب الذين كان البروتوكول ينظم دخولهم واحدا واحدا ، ورفض السماح لأبي عمار بالدخول الى الصالة المسجى بها، فانتهرهم عرفات واقتحم الصالة بحدة ، وأجبرهم على الإبتعاد عنه ، ثم انتقل بنفس الطريقة الى الغرفة الجانبية التي وقف فيها بشار الأسد وبجانبه فاروق الشرع وزير الخارجية ومصطفى طلاس وزير الدفاع فدخل عليهم، وبادر بعناق بشار، وصافح الشرع وانتقل لمصافحة طلاس الذي شتمه قبل فترة وجيزة، فاضطر العماد لتقديم التحية العسكرية له!
وكانت آخر زيارات عرفات الى دمشق قبل أن يموت الزعيم الفلسطيني الذي صاغ الهوية الفلسطينية المعاصرة، وانتزع من العرب (القرار الوطني المستقل) وأصبح رمزا للشعب الفلسطيني، وبمثابة أب لكل الفلسطينيين .
لم يكن الزعيم الراحل أقل قدرة من غريمه الأسد في العبث بالساحة السورية ردا على عبث الأسد في الساحة الفلسطينية ، على مدى ثلاثين عاما .
وأود هنا أن أكشف شيئا عشته بنفسي، لم أكشف عنه سابقا في نص مكتوب .
وقد سمعت من قادة فتح أن ما كنت اقوم به في حلب (انشاء تنظيم فتحاوي من السوريين) كان له ما يوازيه في دمشق وبقية المحافظات السورية ، ما يعني أنه خطة استراتيجية لبناء تنظيم سوري موال لفتح ومؤيد للثورة الفلسطينية .
بناء على هذا التاريخ الطويل من المواقف القوية في مواجهة الطغيان الاسدي ضد الشعبين العربيين الشقيقين الفلسطيني والسوري كتبت ذات مرة قائلا: ياسر عرفات هو المعارض السوري الأول !!
كان هذا الموقف القوي للزعيم الفلسطيني في عصر لم يكن أحد من قادة الدول العربية يجرؤ على مناصبة الاسد العداء المكشوف، أو انتقاده علانية، باستثناء عرفات وصدام حسين .
كان صدام يستند الى بلد كبير وقوي وغني له جيش مليوني عرمرم مدجج بأحدث الاسلحة ويخطط لاقتحام دمشق ، ولا يخاف ردود افعال جاره. أما عرفات فهو بلا جيش ولا دولة على الأرض ، ولم يكن له من الأسلحة سوى شجاعته الادبية والسياسية والشخصية ، ومع ذلك واجه الأسد في لبنان وعلى الساحة العربية.. وفي عقر داره على مدى ثلاثين عاما! وهذا موقف استثنائي لا بد أن يحسب له .
وأنا على ثقة تامة أن ياسر عرفات كان مثلنا نحن السورييين يعلم علم اليقين أن حافظ الأسد مرتبط بإسرائيل بعلاقة وثيقة هي تحديدا مشروع كيسنجر - ايغال الون الذي يسمح للأسد بالتوسع مقابل تعهده باحترام أمن اسرائيل وحدودها، ولذلك كانت سياسته تخدم فعلا مخططات اسرائيل في المنطقة ، وخاصة تصفية القضية الفلسطينية التي كانت محور سياسته العربية، ويقال إن كيسنجر شجعه على ذلك في اجتماعهما قبيل توقيع اتفاق فض الاشتباك مع اسرائيل عام 1974، وقال له: أعطني رأس منظمة التحرير أسلمك مفاتيح المنطقة من ايلات الى انطاكية ! وهو ما تأكد في موافقة كيسنجر عام 1976 على دخول جيش الأسد الى لبنان، وهو الاتفاق الذي تجدد مرارا حتى عام 2005 .
ولا يخالجني شك بأن حافظ الأسد وابنه وأجهزته يعرفون ما يقوم به غريمه الفلسطيني في الداخل السوري، ودعمه المستمر لمعارضيه، وكان يتحين الفرصة لقتله أو إزاحته من طريقه، لأسباب عديدة، أهمها استحوازه على القضية الفلسطينية، وثانيها منافسته على لبنان، ودعمه للمعارضة السورية.
لذلك أؤكد ان الرئيس ياسر عرفات وقف على مدى حياته مع الشعب السوري وقوى معارضته ، لذلك يستحق أن نتًّوجه رحمه الله بمنزلة "المعارض السوري الأول والأقدم"!