بينما يضيق هامش المناورة في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لدى حركة حماس في غزة، توسع إسرائيل من مظاهر حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في الضفة. يأتي ذلك في ظل عوامل تساعد على ذلك، أهمها الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في ظل حقبة إدارة دونالد ترامب، التي نشهد إرهاصاتها.
يأتي ذلك بالإضافة إلى عدم وجود معارضة حقيقية في إسرائيل لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية، فقد نجح اليمين بإقرار ميزانية العام الجاري في الكنيست، ما يعني استمرار حكم نتنياهو لعام إضافي آخر.
كما ينبئ أيضاً العجز الدولي والموقف العربي الرسمي، والذي تواصل متفرجاً على جرائم الإبادة المتواصلة في غزة لأكثر من ١٧ شهراً، دون حراك حقيقي لوقفها، على عدم قدرته على حماية الفلسطينيين.
يأتي ذلك كله في ظل حالة من عدم قدرة الفلسطينيين على إيقاف ما يجري من مخططات.
يبدو أن هامش المنارة في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لدى حركة حماس في غزة يضيق، في ظل معطيات تشير إلى توافق إسرائيلي أميركي لحسم وضع غزة لغير صالح الفلسطينيين.
فقد أثبتت مبادرة وقف إطلاق النار، التي جاءت خلال شهر كانون الثاني الماضي، أنها جاءت كمناورة، أميركية إسرائيلية، لإخراج أكبر عدد من المحتجزين والأسرى في غزة، وهو ما يفسر رفض إسرائيل الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، التي سيتم خلالها الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة.
طرحت إسرائيل تمديد فترة المرحلة الأولى، لإخراج مزيد من المحتجزين، بينما يعرض ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حالياً مبادرة لا تخرج عن تمديد المرحلة الأولى، دون التزام إسرائيلي بالانسحاب من غزة.
وحتى المبادرة المصرية الحالية، ترفض إسرائيل حتى التطرق لها، لأنها تتطرق للمرحلة الثانية.
وتبدو المعادلة واضحة، فحتى وإن قبلت حركة حماس بتسليم جميع المحتجزين في الأيام التالية، ستعود إسرائيل عبر الضغط العسكري، والعودة للحرب لتخيير الحركة ما بين مزيد من القتل والدمار في غزة أو استسلامها.
يأتي ذلك في ظل عدد من الحقائق التي يصعب تجاهلها. تتزايد التصريحات الإسرائيلية بنواياها فرض سيطرة عسكرية على غزة بعد الحرب، والتي تأتي في ظل دعوات اليمين الإسرائيلي السابقة للاستيطان في غزة.
كما يتزامن ذلك مع قرار الحكومة الإسرائيلية بإنشاء إدارة متخصصة لمتابعة تهجير الفلسطينيين من غزة.
يتقاطع ذلك مع مساعي الولايات المتحدة وإسرائيل المعلنة لدى مجموعة من دول العالم لإقناعها بقبول الغزيين.
قد يكون من الصعب تجاهل جميع تلك المعطيات، وقد يكون لازماً على الفلسطينيين في ظلها تنسيق ترتيبات مع الدول العربية للخروج بأقل الخسائر الممكنة، في أعقد اللحظات التي تمر بها القضية الفلسطينية.
في الضفة الغربية، باتت سياسات الاحتلال واضحة دون مواربة، باتجاه حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالضربة القاضية.
وقد يكون أهم وأخطر ما يدور حالياً في أروقة صنع القرار الإسرائيلي، وكشفت عنه صحف عبرية، ذلك المتعلق بتقسيم الضفة الغربية إلى عدد من المقاطعات الإدارية الفلسطينية، التي تمثل المدن الفلسطينية المركزية، في محاولة لتذويب الشخصية القانونية والسياسة الرسمية. يأتي ذلك بالتزامن مع إعلان ضم ١٣ مستوطنة لإسرائيل، وتوسيع استيطاني مضاعف في مستوطنات الضفة، وإحياء لمشروع القدس الكبرى، بضم جميع مستوطنات الطوق حول المدينة المقدسة، والتي ستتوسع حدودها بشكل كبير، وسيفصل ذلك شمال الضفة عن جنوبها وعن القدس.
وهناك مخططات أيضاً لبناء سور عازل جديد يمر على الحدود الفاصلة بين الضفة الغربية والأردن، بطول ٤٢٥ كيلو متراً مربعاً، وبتكلفة مليار ونصف المليار دولار.
تتقاطع جميع تلك المخططات مع الحرب التي يشنها الاحتلال في شمال الضفة الغربية ضد جنين وطولكرم وطوباس، في محاولة لإعادة رسم وترتيب الأوضاع الأمنية والديمغرافية والجغرافية فيها، بما يخدم مخططاتها الكبرى.
كما أن مساعي الاحتلال لتصفية قضية المخيمات، والتي بدأت باستهداف "الأونروا"، وتدمير المخيم، وإعادة رسم بنيته، لا تخرج عن تلك السلسلة من الإجراءات التي تصب لتحقيق هدف واحد.
ولا ينفصل ذلك عن تصاعد هجمات المستوطنين على السكان الفلسطينيين، في جميع أنحاء الضفة الغربية، وإعاقة حركة وتنقل الفلسطينيين بين مدنهم وقراهم، بوضع مئات البوابات والحواجز.
إن جميع إجراءات إسرائيل الحالية في الضفة الغربية، وفي غزة أيضاً، تصب بوضوح لحسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتنكر لحالة الاحتلال الموجودة فعلياً في الأراضي الفلسطينية، ولجميع الاتفاقيات التي وقعتها مع الفلسطينيين وغير الفلسطينيين، وفرض واقع جديد عليها بالقوة العسكرية المفرطة، وبدعم أميركي كامل.
ويحاول الاحتلال خلال معركته الحالية مع الفلسطينيين ترسيخ عدد من المفاهيم والقواعد، والتي تخدم تحقيق هدفه العام.
إن القتل وإراقة الدماء الفلسطينية، دون حساب أو محاسبة، مفهوم ضروري، لترسيخ حالة ذهنية معينة لدى الفلسطينيين في هذه المعركة. فتخطى عدد الشهداء في غزة خلال العام والنصف الماضي ٥٠ ألفاً، وأكثر من ضعفهم من الجرحى.
ويذكرنا ذلك بتلك الاستراتيجية التي تبنتها العصابات الصهيونية، في عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وساهمت في خلق حالة من الرعب لدى الفلسطينيين، وساهمت بحدوث تهجير قسري لم ينسه الفلسطينيون قط. كما يرسخ الاحتلال في معركته الحالية مع الفلسطينيين، والتي بدأت في غزة، وانتقلت للضفة، حالة التهجير وخسارة الممتلكات والأرض، وهي أيضاً تأتي من بين استراتيجيات حرب العام ١٩٤٨.
ويعد ذلك أمراً خطيراً، في ظل جميع المعطيات السابقة، وينبىئ بإمكانية حدوث ما هو أسوأ.
وليس أمام الفلسطينيين الآن إلا تسخير جميع القدرات الدبلوماسية والسياسية والتنسيق مع الدول العربية، والدول الصديقة، في محاولة لرأب صدع، انهياره كارثي، ليس على الفلسطينيين فقط، بل والمنطقة أيضاً.
ويبقى عامل قوة الفلسطينيين كامناً في وحدتهم والصمود على أرضهم، والتشبث بحقوقهم الوطنية.