قبل أن تنعقد القمة العربية في القاهرة، كانت دولة الاحتلال، قد استقبلتها بقرار إغلاق كافة المعابر مع قطاع غزة، ووقف كافة المساعدات كأول إجراء خطير للتنصّل من اتفاق التهدئة، التي جرى العمل عليها لأشهر طويلة.
كان ذلك ردّاً أوّلياً، مسبقاً، يذكّر العرب بقرار أريئيل شارون، عام 2002، حين اجتاح جيش الاحتلال الضفة الغربية ضمن حملة "السور الواقي" رداً حاسماً على قرارات "قمة بيروت" التي كان أبرزها ما يعرف بـ"مبادرة السلام العربية".
بعد القمة ورداً على قراراتها أعلن نتنياهو "أن حربه ليست في القطاع فقط، مضيفاً لقد وصلنا إلى جبل الشيخ (سورية)، وسنغير وجه الشرق الأوسط".
كثير من المسؤولين الإسرائيليين الرسميين عبّروا عن رفضهم وغضبهم من قرارات القمة، وأكدوا أنهم سيواصلون العمل من أجل تنفيذ خطة ترامب ودفع الفلسطينيين للهجرة "الطوعية"، كما لم يتأخّر ردّ فعل الإدارة الأميركية التي رفضت قرارات القمة، خاصة ما يتعلق بتهجير الفلسطينيين، إذا يبدو أن الخطة المصرية التي اعتمدتها القمة أصابت كبرياء الرئيس الأميركي الهائج.
على كل الأحوال لم تكن ردود الفعل الأميركية الإسرائيلية على الخطة المصرية منذ الإعلان عنها قبل القمة، مخالفة للتوقعات، بما أنها شكّلت تحدياً لإرادة أميركية، تغمرها القناعة بأنها قادرة على فعل أي شيء وكل شيء وفي أي مكان في العالم، الذي تعتقد أنها تملكه ولا يملك من يخالفها القدرة على البقاء.
يبدو أن دولة الاحتلال، وحليفها الأميركي، قد قرؤوا المشهد الذي جرى في القاهرة، ابتداءً من الحضور، الذي شهد غيابات وازنة من الملك المغربي إلى ولي العهد السعودي، إلى رئيس الإمارات، وعدد آخر من الزعماء.
يعكس هذا المشهد للحضور، خلافات جرى الحديث عنها خلال القمة السداسية الأخوية التي انعقدت في السعودية قبل أيام تحضيراً للقمة وغاب عنها الطرف الفلسطيني صاحب القضية.
يبدو أن ثمة خلافات تتعلق بـ"اليوم التالي" في القطاع، فبالرغم من الاتفاق على رفض التهجير، إلّا أن البعض يعتبر أن وجود حركة حماس وسلاحها سبب لاستمرار هدر الأموال في إعادة الإعمار ثم تدمير ما يتم بناؤه، طالما أن الوضع يسمح لدولة الاحتلال باستمرار حروبها الإجرامية المدمّرة على القطاع.
القرارات التي صدرت عن القمة، شاملة، كالعادة، وتؤكد على وحدة الموقف العربي تجاه الحقوق الفلسطينية، والسبيل لتحقيق السلام في المنطقة، لكن الأهم من كل تلك القرارات المتكررة، القرار العربي بشأن رفض خطة ترامب للتهجير، بما أنه القرار الذي وضعته الإدارة الأميركية وحكومة الاحتلال على طاولة التنفيذ العاجل.
وكما أن هذا القرار يشكل تحدياً لإدارة ترامب، الذي تلقفته حكومة الاحتلال، فإنه من ناحية أخرى، شكّل تحدياً للدول العربية، خصوصاً مصر والأردن والسعودية، بما ينطوي عليه المخطط من تهديد للأمن القومي الإستراتيجي لهذه الدول.
على أن قرارات القمة تفتقر لآلية التنفيذ، كالعادة، وبعضها ينطوي على غموض بشأن أبعاده، إلّا أن الأهم من كل ذلك على ما يبدو غياب الإرادة العربية الجماعية على مواجهة المخاطر المحدقة بالأمة العربية وأمنها واستقرارها.
لا يمكن فهم غياب عديد القادة العرب عن حضور القمة، وإرسال مندوبين، من مستوى ثانوي، إلّا على أنه دلالة على انقسام العرب مرة أخرى أمام قضايا مصيرية تتصل بحاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط.
لو أن العرب حزموا أمرهم، واستجمعوا قواهم، وقرروا حماية أمنهم ومستقبلهم، وتوظيف أوراق القوة التي يملكون لكانوا قادرين على وقف الحرب الإجرامية، وكسر الحصار المفروض على القطاع بخلاف ما تم الاتقاق عليه برعاية أميركية مصرية قطرية.
العرب لا يزالون متردّدين، ومشتّتي الإرادة والهوى، وربما أراد بعضهم التخلص بطريقة أو أخرى، من الورطة التي وجدوا أنفسهم فيها، ونقصد الحرب الدموية التي تديرها إسرائيل بدعم أميركي كامل على كل المنطقة، ابتداء من فلسطين وسورية ولبنان، وتتجه نحو التوسّع إلى الإقليم.
في هذه الحالة يخطئ من يعتقد أن بإمكانه أن يحمي رأسه ونظامه وبلده إن هو آثر السلامة من خلال التناغم بطريقة أو أخرى مع المخططات الأميركية الإسرائيلية.
الحرب العالمية الثالثة تدقّ على الأبواب، فبعد رفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية بنسبة تصل إلى 20% تعلن بكين لأوّل مرة استعدادها لخوض الحرب حتى النهاية وبكل الوسائل طالما أرادت أميركا ذلك.
العالم كله يهتز بقوة من كافة أركانه بسبب الحرب التجارية وغير التجارية التي أعلنها ترامب، الذي يضرب في كل اتجاه، ويزلزل، النظام العالمي بأسره، بمن في ذلك الحلفاء التاريخيون، أوروبا، وكندا، و"الناتو"، ويقوض الأسس التي يقوم عليها النظام الدولي منذ الحرب العالمية الثانية.
كان على العرب المجتمعين في القاهرة، أن ينتقلوا من سياسة الردّ السلبي، على المخططات الأميركية الإسرائيلية إلى الردّ المقاوم والفاعل والاستعداد لما هو أبعد من ذلك، قبل أن تصل النيران إلى أقدامهم، هذا إلّا إذا كان ثمة من يعتقد أن التزام السلبية والإدانة والذهاب إلى الأمم المتحدة، سيشكل له مخرجاً.
ليس هناك سوى الاعتماد على الذات، واختيار التحالفات والخيارات السليمة التي تضاعف ما لدى العرب، من مصادر قوة هائلة يستطيعون في حال تفعيلها إفشال كل المخططات وأية مخططات تستهدفهم.
العرب تركوا الفلسطينيين، ولكن الفلسطينيين كانوا على قدر المسؤولية، وخاضوا معاركهم وصمدوا وأفشلوا، إلى حين، المخططات الأميركية الإسرائيلية وفي ذلك عبرة للعرب المرتجفين.
والعرب تركوا اللبنانيين يخضعون تحت ضغط الابتزاز الأميركي والاحتلال الإسرائيلي الذي لا يخفي أهدافه، في الاحتفاظ بالمناطق التي يتواجد فيها جيش الاحتلال، وإثارة الفتن الداخلية حتى دفع اللبنانيين إلى حروب أهلية، من دون أن يحققوا شيئاً سوى تدمير بلدهم.
والعرب تركوا سورية، التي يتبجّح نتنياهو بأنه وسّع احتلاله لمناطق واسعة في جنوبها، وجبل الشيخ، ويتذرّع بحماية الدروز لمواصلة تدمير كل ما يملكه السوريون من قدرات، بعد أن دمّر قدرات الجيش السوري، التي تعود ملكيتها للشعب السوري.
عند هذا الحدّ نعتبر أن قرارات القمة العربية بجوهرها رفض خطة ترامب للتهجير جيدة، ولكن ذلك ينبغي أن يكون الخطوة الأولى على طريق إفشال تلك الخطة، والاستعداد للمجابهة المقبلة التي تسعى دولة الاحتلال لإثارتها، وإلّا فإن تلك القرارات ستتحوّل فقط إلى تبرئة الذمم، ولا ينتج عنها سوى الندم في زمن لا ينفع فيه الندم.