حالتنا في بعض مظاهرها «تصعب على الكافر»!
نشر بتاريخ: 2025/12/25 (آخر تحديث: 2025/12/25 الساعة: 15:58)

سأبدأ باللغط الكبير الذي دار حور «الاشتراطات» السياسية التي تم إقرارها، والتي يُلزم القانون بموجبها المرشّحين للمناصب في الهيئات المحلية واجب الاعتراف المسبق، والموافقة على كافّة «التزامات» منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الوطنية الفلسطينية حيال العلاقة مع الاحتلال، وحيال عملية «السلام».

هذا القانون ــ كما أرى ــ سيثير وسيفجّر أزمة داخلية لم نكن بحاجة لها، وهي عملية تبدو مفتعلة لإجهاض أي انتخابات حقيقية، بل وتبدو وكأنها مجرّد «تعجيز» لا يوجد له أيّ مبرّر، لا قانوني، ولا سياسي، ولا يوجد له أي دواعٍ اجتماعية أو ثقافية، بل وليس له أيّ أبعاد من شأنها الحفاظ على الهوية، أو التماسك الوطني والاجتماعي، أو الصمود، أو البقاء أو مواجهة ما يتم من تخطيط إسرائيلي منهجي، ومن سياسات إسرائيلية مباشرة في تعزيز الاستيطان، وفي مصادرة الأرض، والسيطرة على الموارد، وعمليات الخنق والحصار الاقتصادي، إضافةً إلى التهويد المترافق بالتفكيك والهدم والاقتحامات وعمليات تدنيس المقدّسات، والإعدامات الميدانية المباشرة.

نحن مجتمع تعددي، وكل نظام ديمقراطي مهما كانت ظروفه خاصة، وحتى استثنائية، يسعى ويجب أن يسعى لتوفير القواسم الوطنية المشتركة التي توفّر أعلى درجة من المشاركة الوطنية والشعبية في اختيار الهيئات المسؤولة عن الشأن الوطني العام، وتلك المسؤولة عن الشأن المعيشي والخدمي في الإدارة الاجتماعية. فمن أين ستتحقق المشاركة هنا؟

هذا القانون ليس له وجود، وليس له مثيل، ولا شبيه في أي نظام ديمقراطي من أي نوع كان، خصوصاً وأننا نتحدث هنا عن هيئات محلية، وليست سياسية مباشرة، ونتحدث عن شؤون التسيير الخدمي، وعن شؤون تنمية المجتمعات المحلية، وعن شؤون إدارة قضايا وهموم الناس المعيشية اليومية، وليس عن الشأن الوطني العام.

أين، وفي أي بلدٍ أو مكان في هذا العالم يفترض في المرشّح للهيئات المحلية أن يلتزم بشروط سياسية هي ليست في صلب مهمّاته وواجباته؟ وهي شأن وطني خالص وشامل، وليس شأناً بلدياتياً خالصاً؟

إذا جرت «الانتخابات» على أساس هذا القانون فهي ــ إن جرت ــ ستكون انتخابات تقتصر على أصحاب اتجاه سياسي واحد ووحيد، مدعومين ومؤيدين من رجال أعمال موالين ومستفيدين، ومن حمائل وعشائر ليس لمشاركتها أي بعد خاص في الشأن الوطني العام سوى التفرّد والاستحواذ والهيمنة، وسوى السيطرة والتحكّم بحلقات محلية كإحدى أدوات وآليات هذه السيطرة والتحكّم بالشأن الوطني العام لاحقاً، وأغلب الظنّ أنهم أقرب إلى اللون الواحد منهم للطيف الواحد.

باختصار، قانون انتخابات الهيئات المحلية كما بات عليه الآن هو وصفة لتعميق حالة الانقسام المجتمعي، وهو وصفة أكيدة لمزيد من عزلة السلطة الوطنية عن البيئة والحاضنة الشعبية المفترضة أن تكون داعمة لها، وهو قانون لا يمتّ بأي صلة لأي قواعد ديمقراطية، وهو مقدمة خطيرة لما ستكون عليه أي انتخابات قادمة، وهو شأن من شؤون الأنظمة الشمولية الغابرة.

إذا ما تمّت الانتخابات على أساس هذه الاشتراطات نكون قد دخلنا في مرحلة جديدة من التيه السياسي والاجتماعي والثقافي، ومن تحالف جديد بين رأس المال والتشكيلات الاجتماعية، الفئوية، بما فيها الحمائلية والعشائرية والقبلية لطمس الهوية الجامعة، وتبديد التعددية الوطنية الحقيقية، وتشتيت التعددية الاجتماعية والثقافية الشاملة، ونكون قد أسلمنا مجتمعاتنا المحلية لفصيل أو طيف أو لون أو فئة بعينها، ونكون قد أقصينا باقي الفصائل والأطياف والفئات.

ومع أن القانون قد تضمن جوانب إيجابية عديدة، وخصوصاً العمر المنصوص عليه لتولّي مهام الهيئات المسؤولة، والذي يعزّز دور الفئات الشابة في هذه الهيئات إلّا أن «الاشتراطات» السياسية هي إجهاض كل ما هو إيجابي، وهي «اختراع» سياسي، وبدعة سياسية تثير السخرية، لأن القانون الجديد بكل بساطة لن يتمكن من الإجابة عن سؤالين أساسيين: الأول؛ ما هي العلاقة التي تربط ما بين هيئة محلية تريد أن تبني مسرحاً للدمى المتحرّكة، على سبيل المثال، ولكي لا نقول مهمّة تنظيم جمع القمامة، أو تحصيل فواتير الماء، وما بين موافقة المرشّح على التزامات المنظمة؟

والثاني، هل يوجد مثل هذه الاشتراطات السياسية في أي نظام ديمقراطي في العالم بصرف النظر عن رأينا أو رأي غيرنا في المحتوى الحقيقي لهذا النظام؟

هل يوجد شرط كهذا للترشح في بلدية مثل حيفا مثلاً، أو شفاعمرو، أو حتى مستوطنة «معاليه أدوميم»؟

هل يوجد شروط سياسية على أيّ مرشّح لعضوية المجلس البلدي في عمّان، أو إربد، أو العقبة بالالتزام باتفاقية «وادي عربة»، على سبيل المثال؟

أو هل يوجد مثل هذا الشرط على من يتولّى مسؤولية الهيئات المحلية في البحرين أو السودان أو الإمارات أو مصر؟ حتى لا نتحدّث عن الدول الغربية؟!

هذه انتخابات تُجرى بشروط سياسية ليس لها أي علاقة بالمصالح الوطنية، وإنما هي حصيلة ضغوطات خارجية، أو شروط خارجية متخيّلة، أو أنها أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من مسار ترويض السلطة الوطنية، أو بالأحرى ترويض المجتمع الفلسطيني عَبر إجراءات السلطة الوطنية، ومن خلال آليات تفرضها على المجتمع.

وأكثر الجهات تضرّراً من هذا القانون هي السلطة الوطنية نفسها، لأن إجراء الانتخابات في ظل هذا القانون سيزيد من عزلتها، وسيكرّس في ذهن المجتمع أن هذه السلطة الوطنية قد غادرت متطلبات مصالح المجتمع نحو ما تتصوّره بأنه «الحل الوحيد» لبقائها، بانتظار أن تُعطى في المستقبل الأدوار التي تؤمّن لها هذا البقاء.

أقول ما تتخيّله السلطة، وليس ما سيتمّ في الواقع، لأن حلقة الإدارة المحلية هي الحلقة الأضعف لجهة التحكّم السياسي بها، وهي حلقة مفتوحة على الاتجاهين:

الاتجاه الداخلي الطامح بتشكيل بديل عنها في الشأن الخدمي، وخصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها.. والاتجاه الخارجي وهو الاتجاه الذي سيبني شيئاً فشيئاً وجوده على الدعم الخارجي، بما في ذلك «الرضا» الإسرائيلي، والذي سيرى في هذه الهيئات بالذات وسيلته الأنجع لتفكيك الكيانية الوطنية الفلسطينية.

وإذا اعتقدت السلطة الوطنية عكس ذلك، أي أن هذه الهيئات بهذه الاشتراطات التي وضعتها ستكون في خدمتها، فإنها ستدفع ثمن هذا الوهم على الجانبين؛ جانب فقد الثقة من قبل الحاضنة الحقيقية المفترضة، وجانب «تهريب» هذه الهيئات للضغوط وسلاسل التحكّم الخارجية.

الأزمة هنا هي أنني لا أتصوّر ــ وربما أكون على خطأ ــ أنّ الاتحاد الأوروبي مثلاً يمكن أن يكون قد اشترط على السلطة الوطنية أو منظمة التحرير مثل هذه الاشتراطات السياسية، لأن الموضوع كله خارج إطار أي عقل، وأي منطق ديمقراطي من أي نوع. وربما أن بعض «الجهابذة» اجتهدوا بأن من شأن «التبرّع» بهكذا اشتراطات أن تعزّز مواقفهم ومواقعهم، وكامل إستراتيجية البقاء التي يرونها منارة عقولهم، وهادية قلوبهم.

والحقيقة أن الأمر سيكون «مفهوماً» بالرغم من أنه خاطئ تماماً، لو أن الأمر يتعلّق بالانتخابات العامة، سواء للمجلس الوطني أو للرئاسة، أو التشريعية. أمّا أن يتم «البدء» بتطبيق هذه الشروط على انتخاب أو بالأحرى الترشّح للهيئات المحلية فهذا والله هو العجب العجاب.

على كل حال فإن وضع «الشروط» السياسية على الانتخابات مسألة تحتمل الحوار على قاعدة واحدة، ودون غيرها.

الاشتراط هنا طبعاً ليس على التزامات المنظمة، وإنما على كون الأخيرة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وأن لا يقبل المرشح أو يشارك أو يسعى للعمل على تقويض دورها التمثيلي، وأن يرفض المشاركة في أي جهد سياسي أو اجتماعي أو ثقافي من شأنه أن يخلق بديلاً عنها أو موازياً لها، إلّا بعد إقرار المؤسسات الفلسطينية الشرعية نفسها أي تغيّر بهذا الشأن الوطني الجامع.

هذا هو الشرط الوحيد الذي يمكن وضعه على مرشّحي «الوطني»، أو «الرئاسة»، أو «التشريعي»، وما دون هذا الشرط لا يجوز أن يتم وضع أي شروط أخرى مهما كانت الظروف، ومهما بلغت الحالة الوطنية من حالة استثنائية أو خاصة أو طارئة.

قلت في العنوان إن حالتنا «تصعب على الكافر»، ليس بسبب هذا القانون فقط، وإنما لأن مظاهر هذه الحالة بدأت تهلّ علينا تباعاً، من تصريحات خالد مشعل رئيس حركة حماس في الخارج، إلى قياس السعرات الحرارية لذوي الشهداء والأسرى، مروراً بما يدور حول بيع أملاك المنظمة في لبنان، وربما غير لبنان، وصولاً إلى ملفّات فساد سافرة وفاضحة.