غزة بعد حماس: بين وصاية الإعمار والاستثمار وشرعية الشعب..
نشر بتاريخ: 2025/10/21 (آخر تحديث: 2025/10/21 الساعة: 20:56)

قراءة في سيناريوهات مستقبل غزة بين الواقع والمأمول"

تعيش غزة اليوم مفصلاً تاريخياً حاسماً، ليس لأنها ربما خرجت من حرب طاحنة فحسب، بل لأنها دخلت مرحلةً مجهولة المعالم تُعرف بـ«ما بعد حماس». مرحلة تتجاوز السجال العسكري إلى أسئلةً حول الشرعية والوصاية والسيادة: كيف سيكون شكل إدارة غزة؟ ومن يملك الحق أن يحكم؟

أولاً: سقوط الثنائية القديمة

منذ عام 2006، كانت غزة ساحة مغلقة داخل معادلة واحدة: حماس في الحكم كسلطة قمعية، تحت وصاية ورغبة الاحتلال وإدارته للانقسام الفلسطيني.

لكن المتغيرات الأخيرة قلبت المشهد: دمار هائل، انهيار إداري، تراجع نفوذ حماس وتغير الوعي والمزاج الشعبي، وانفتاح شهية القوى الإقليمية والدولية على إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني.

بهذا المعنى، لم تعد حماس “الحاكم الفعلي” الذي يملك زمام المبادرة، ولم تعد إسرائيل “المحتل المباشر” الذي يتحمل وحده كلفة السيطرة.

لقد انهارت الثنائية التي حكمت غزة عقدين من الزمن، وبدأت مرحلة الفراغ السياسي المنظم. ليفتح الباب امام سيناريوهات ثلاث:

أولاً: سيناريو الوصاية الدولية

أقوى السيناريوهات المطروحة والمرجحة يتمثل في تشكيل هيئة دولية مؤقتة لإدارة القطاع، بغطاء إنساني وإشراف أمريكي ومسمى أممي، تحت شعار «إعادة الإعمار».

هذه الصيغة تبدو في ظاهرها مدنية، لكنها في جوهرها إعادة إنتاج للانتداب الاستعماري بشكل ناعم:

فتح باب الهجرة الكبرى وتحفيزها، إدارة مالية، مراقبة أمنية، ومشروعات تنموية كبرى تُعيد صياغة المشهد الديمغرافي والاقتصادي لغزة.

إنها وصاية مُقنَعة ستُقدَّم كحل إنساني، لكنها ستتحول إلى أداة لتفكيك الهوية السياسية الفلسطينية وإخراج غزة من دائرة الصراع عبر الإغراء الاقتصادي والاحتواء الإداري.

ثانياً: سيناريو عودة السلطة الفلسطينية

خيار آخر مطروح رغم اصطدامه بقطعية الرفض الإسرائيلي، وهو عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة بصيغة «سلطة موحّدة» تحت إشراف دولي وعربي.

لكن هذا السيناريو أيضاً يصطدم بمحدودية الثقة الدولية والشعبية في السلطة، بواقع فسادها وعجزها الحالي، وغيابها عن حضور فعلي في مشهد انقسام دام أكثر من 17 عاماً.

لذلك، فإن أي عودة للسلطة دون إصلاح جذري لبنيتها ومشروعها الوطني للحفاظ على الكيانية الوطنية الفلسطينية، لن تكون سوى عودة شكلية تغلفها شعارات المصالحة بينما تبقى السيطرة الحقيقية بيد القوى الخارجية.

ثالثاً: سيناريو الإدارة الوطنية المستقلة

البديل الأكثر انسجاماً مع تطلعات الناس هو تشكيل إدارة وطنية مدنية مؤقتة من التكنوقراط الفلسطينيين، تتولى إعادة الإعمار وإدارة الشأن العام بعيداً عن الفصائل والسلاح.

نجاح هذا النموذج مرهون بثلاث شروط أساسية:

- ضمان حرية الإرادة الفلسطينية دون وصاية إقليمية أو دولية.

- نزع كامل للسلاح الغير رسمي أي احتكار السلاح الشخصي في يد الشرطة المدنية فقط.

- تنظيم استفتاء شعبي أو آلية تشاركية حقيقية تمنح هذه الإدارة شرعية نابعة من الشعب لا من التعيين الخارجي.

هذا الخيار، رغم صعوبته، هو الأقرب إلى منطق الدولة الحديثة، حيث الشرعية تُبنى على التمثيل الشعبي والمسؤولية المدنية، لا على الفصائلية والتمويل السياسي.

ويبقى السؤال الأعمق ليس من سيحكم غزة، بل من أين تُستمد شرعية الحكم؟

هل من السلاح؟ من الوصاية الأمريكية والمانحين؟ من المؤسسات الدولية؟ أم من الناس أنفسهم؟

طالما أن الشعب الغزّي يُحرم من التعبير الحر عن إرادته، ستبقى غزة رهينة «نظام الوصاية» مهما تغيّرت الواجهات.

فالحرية لا تتحقق بتبديل الحاكم، بل بإعادة الحق في الاختيار والمساءلة إلى أصحابه.

مستقبل غزة لا يُحسم في غرف المفاوضات، بل في وعي أهلها وقدرتهم على صياغة مشروع وطني جديد يرفض ثنائية القمع والوصاية معاً.

فلا حماس يمكنها أن تعود إلى الحكم، ولا الانتداب الدولي يمكن أن يمنح غزة سيادة حقيقية.

الخلاص لن يكون إلا عبر ولادة سلطة مدنية وطنية مستقلة تنبع من إرادة الناس، وتعيد بناء غزة على أسس العدالة والحرية والمساءلة.

حينها فقط، يمكن أن نقول إن غزة خرجت حقًا من أنقاض الحرب، لا لتدخل مرحلة «من يحكمها»، بل لتبدأ مرحلة من يملك القرار فيها.