لقد هدموا البيوت، فما جدوى المفاتيح؟
نشر بتاريخ: 2025/10/19 (آخر تحديث: 2025/10/19 الساعة: 20:36)

في العاشر من هذا الشهر تشرين الأول ٢٠٢٥، كتب الناشط الغزاوي عبد الكريم عاشور الذي يكتب يوميا تحت عنوان «يحدث في غزة» عن المفاتيح الآتي:

«مفاتيح ...

أما وقد وضعت الحرب أوزارها، فها هي المفاتيح التي اختبأت طويلا في ظلمة جيب بنطالي القديم خلال حرب الإبادة. تخرج، اليوم، تبحث عن أبوابها وأقفالها التي هجرتها طويلا، لتجد الأبواب قد تكسرت والأقفال تبعثرت تحت الركام.

كان أولها مفتاح بيت أخي أحمد في مدينة الزهراء، حملته بيدي يوم سقط البيت، وما زال يثقل قلبي كقطعة من الحديد ممزوجة بالحنين.

تلاه مفتاح مكتبي في برج مشتهى - أنصار، ثم مفتاح بيتي في السودانية، ومفتاح مكتب برنامج غزة للصحة النفسية في برج الشوا، يليه مفتاح مركز تطوير NDC في البرج ذاته، وكأن المفاتيح تتزاحم في يدي لتذكرني أن الخراب صار عنوان المرحلة.

ومع ذلك لم أنسَ المفتاح الأكبر... مفتاح بيت جدي ووالدي في مدينة المجدل - عسقلان، ذاك المفتاح الذي ورثته كما تورث الوصايا، مفتاح لا يفتح شيئا في الأرض، لكنه يفتح في القلب بابا إلى الذاكرة والحق». وأضاف: «كثيرة هي المفاتيح في أيدي أهل غزة تصرخ بصمت دامٍ، باحثة عن أبواب لم تعد موجودة وأقفال كانت تشبه أحلامنا الأولى. لكننا ما زلنا نحملها.. كمن يحمل وعدا لا يصدأ، بأن الأبواب مهما طال الغياب ستعود يوما لتفتح من جديد، لا أبواب البيوت فقط، بل أبواب الحياة».

أعادتني الكتابة السابقة إلى قصيدة مريد البرغوثي «المكيدة» في ديوانه «منطق الكائنات»:

«قال المتلهفون على الدخول:/عبثا احتفظنا بمفاتيحنا طوال العمر../ فقد غيروا الأقفال!»

وحثتني على البحث عن دال «مفتاح/ مفاتيح» في الأدب الفلسطيني، إذ حضر حضورا لافتا، كما حضر في لوحات فنانين فلسطينيين تشكيليين.

صار المفتاح أيقونة فلسطينية بامتياز واتخذ شكل ميدالية يحملها الفلسطيني معه كما حمل اللاجئون مفاتيح بيوتهم في منافيهم معهم، على أمل العودة وفتح أبواب بيوتهم التي أغلقوها وراءهم ساعة خروجهم الظانون أنه خروج مؤقت عابر لن يستمر طويلا، ولكن المؤقت دام حتى تساءل محمود درويش:

- أفلا يدوم سوى المؤقت يا زمان البحر فينا؟

ولك أن تسأل الذكاء الاصطناعي عن دلالة المفتاح في الأدب الفلسطيني ليجيبك:

«حق العودة والذاكرة والهوية والأمل والتصميم والصمود والمقاومة» ويشرح لك دلالة كل مفردة ويخلص إلى الآتي:

«بشكل عام يعتبر مفتاح العودة أحد أهم الرموز الوطنية في الأدب والفن الفلسطيني، جنبا إلى جنب مع رموز أخرى مثل الكوفية والبرتقال وحنظلة، وكلها تعبر عن الوجود التاريخي والصمود في وجه الاحتلال».

عندما بدأت استرجع حضور دال «مفتاح/ مفاتيح» في أديباتنا (لن أكتب عن الفن التشكيلي لعدم إلمامي الدقيق بالتفاصيل) تذكرت الآتي:

أولا: قصة غسان كنفاني «الصغير يكتشف أن المفتاح يشبه الفأس» (أيار ١٩٦٧) من مجموعة «عن الرجال والبنادق»، ويمكن عدها القصة القصيرة الأساس للكتابة عن المفتاح في الأدب الفلسطيني، وهي تحكي عن المفتاح الذي حمله اللاجئ معه على أمل العودة إلى قريته ولكنه ظل ينتظر عشرين عاما والمفتاح معلق على الجدار حتى كاد حامله الذي ورثه عن أبيه ينساه، ولم يلتفت إليه مجددا إلا في أيار ١٩٦٧ فتفاءل. وغير خافٍ تأثير اللحظة الزمنية لتحركه، ففي أيار ١٩٦٧ كانت طبول الحرب تقرع وكان اللاجئون متفائلين تفاؤلا كبيرا قبل أن تخيب حرب حزيران ١٩٦٧ أملهم.

ثانيا: ما كتبه سلمان ناطور في كتابه «هل قتلتم أحدا هناك؟ « ١٩٩٩ عن لقائه بالشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في صوفيا في العام ١٩٨٠ وحديث الشاعر إلى سلمان عن احتفاظه بمفتاح بيته وتوريثه له لابنه، والتوريث ظهر أيضا في قصة كنفاني. مات أبو سلمى وربما مات ابنه ولا نعرف إن كان ورث المفتاح لابنه أيضا.

ثالثا: عناوين مسرحيات وروايات ظهر فيها دال مفتاح/ مفاتيح، مثل مسرحية عبد اللطيف عقل «المفتاح» ١٩٧٦ ورواية علي الخليلي «المفاتيح تدور في الأقفال» ١٩٨٠، ورواية راشد عيسى «مفتاح الباب المخلوع».

أتى علي على تجربته في السجن في بداية ثمانينيات القرن العشرين وكتب عن ساعات الإفراج عنه «دارت المفاتيح في الأقفال» و»حملت الأغنية خلفي. من باب إلى باب. تدور المفاتيح خلفي. ستة أبواب». وأما راشد عيسى فكتب عن الحجرة/ البيت في المخيم والأثاث فيها «باب حجرتنا بلا قفل ولا مفتاح، إنه واثق من نفسه أو لعله ساخر بنفسه». ماذا سيسرق اللصوص إن أتوا ليسرقوا؟

هل ينسى الفلسطيني قصة مفاتيح كنيسة القيامة في القدس واختلاف الطوائف على الأحق بمن يحملها، ثم الاتفاق على احتفاظ عائلة مسلمة بها لفتح الكنيسة وإغلاقها، تلافيا للمشاكل؟

في قصيدته «أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي» التي استلهم فيها التاريخ كتب محمود درويش عن تسليم مفاتيح غرناطة «وزمان قديم يسلم هذا الزمان الجديد مفاتيح أبوابنا». هل ثمة دلالة رمزية؟

خاتمة: غير أن للمفاتيح معي قصة لن يصدقني أحد إذا كتبتها.