في الأوطان التي تُدار برؤية استراتيجية واضحة، تكون الوظيفة العامة وسيلة لخدمة الدولة والمجتمع، لا غاية بحدّ ذاتها. لكن حين تتحوّل الوظيفة إلى أداة للترضية وشراء الولاءات، تدخل الدولة في مرحلة الانحدار الخطير، ويتحوّل الشعب تدريجيًا إلى قطاع موظفين تابعين لا طاقة له على الإنتاج ولا رغبة لديه في الإبداع.
▪️ التوظيف العشوائي: سياسة تقتل الدولة من الداخل
تضخيم الجهاز الوظيفي دون تخطيط اقتصادي أو حاجة حقيقية يحوّل الدولة إلى جسم مترهّل يستهلك أكثر مما ينتج. تُهدر الموازنات على الرواتب، وتُهمَل القطاعات التنموية، وتُغلق الأبواب أمام المبادرات الفردية والريادة المجتمعية.
هذا النهج يخلق اقتصادًا هشًّا ريعيًّا يعتمد على المساعدات والتحويلات، بدل اقتصاد إنتاجي يعتمد على العمل والمنافسة. وبمرور الوقت، يُدفن الطموح في مكاتب البيروقراطية، ويصير المواطن مستهلكًا ينتظر الراتب آخر الشهر، بينما يذبل الابتكار ويغيب الإبداع.
▪️ النتائج الاقتصادية والاجتماعية
تؤدي سياسة التوظيف العشوائي إلى شلل اقتصادي واجتماعي:
تضاؤل الحافز للإنتاج والعمل الحرّ.
تآكل الطبقة الوسطى وازدياد الفجوة بين الأغنياء والموظفين.
انتشار ثقافة الاتكالية والرضوخ بدل روح العمل والعطاء.
يتحوّل الوطن إلى مؤسسة ضخمة تُدار بالعادات لا بالكفاءات، وبالولاءات لا بالإنجازات، في حين يُحرم الشباب من فرص الإبداع والمبادرة.
▪️ الأثر السياسي
تخلق هذه السياسة أدوات سيطرة على المواطن، حيث يصبح الراتب هو شريان حياته، فيسهل على السلطة كبح النقد والمعارضة، ومكافأة المطيع، وإقصاء المبدع.
يتراجع القرار الوطني الحرّ، ويُصبح الجهاز البيروقراطي خانقًا، فيما تُبدّد الطاقات والإمكانات، وتُحيل الدولة إلى كيان إداري بلا روح.
▪️ انعكاسات على الهوية الوطنية والاستراتيجية
حين يتحوّل الشعب إلى كتلة من الموظفين، يفقد الوطن ركائزه الأساسية:
تتآكل الهوية الإنتاجية.
يتراجع الإحساس بالمسؤولية الوطنية.
تضعف روح التضحية والمبادرة.
وتتحول الدولة من مشروع تنموي وطني إلى إدارة مصلحية تبحث عن تمويل لتغطية الرواتب، فيصبح المستقبل رهينة البيروقراطية والولاءات، والنهضة الحقيقية بعيدًا عن متناول الشعب.
▪️ الواقع الفلسطيني: بين الموظف والسيادة
في السياق الفلسطيني، تحوّل التوظيف في مؤسسات السلطة إلى أداة سياسية واجتماعية، بدل أن يكون رافعة وطنية لتنمية الإنسان وبناء المؤسسات. أدى تضخّم الجهاز الوظيفي دون رؤية اقتصادية وطنية واضحة إلى شلل إداري ومالي، وأضعف قدرة المؤسسات على الابتكار والمساءلة، وأفقدها القدرة على القيام بدورها الحقيقي في خدمة المواطن والمشروع الوطني.
وقد أفرز هذا الواقع مجتمعًا يعتمد في معيشته على الراتب، ويخشى النقد أو المبادرة خشية فقدانه، فتحوّلت الوظيفة إلى قيد اجتماعي وسياسي بدل أن تكون وسيلة للكرامة والعطاء. كما أصبح الاقتصاد الفلسطيني رهينة لنفقات جارية على حساب التنمية والإنتاج والاستقلال الاقتصادي.
إنّ إنقاذ الواقع الفلسطيني من هذا المسار يتطلّب إصلاحًا هيكليًا شجاعًا يعيد الاعتبار للكفاءة والمساءلة، ويحرّر مؤسسات الدولة من منطق المحسوبيات والولاءات، ويعيد ربط التوظيف بحاجة المجتمع لا بحسابات النفوذ، ليصبح الشعب الفلسطيني قوة فاعلة في بناء الوطن، لا قطاع موظفين ينتظر الراتب الأخير من الشهر.
▪️ نحو الخروج من المأزق
إنّ مواجهة سياسة التوظيف العشوائي ليست ترفًا إداريًا، بل ضرورة وطنية لإنقاذ الدولة من الانهيار. يجب إعادة هيكلة القطاع العام، وربط التوظيف بالكفاءة والحاجة، وتشجيع الاقتصاد الإنتاجي والريادة المجتمعية، وغرس ثقافة العمل الحرّ والمساءلة. فالوطن الذي يزرع الكفاءات يحصد الازدهار، أما الذي يزرع الولاءات فيحصد الضعف والانقسام.
الخلاصة:
الأوطان لا تُبنى برواتب فقط، بل بالإرادة الحرة والعمل المنتج. والشعوب التي تُوظَّف لتصمت، لا تملك غدًا لتنهض. استعادة روح المبادرة وربط العمل بالإنتاج لا بالولاء، هي السبيل الوحيد لإنقاذ الأوطان والمجتمعات من الانحدار، وتحويل المواطن من موظف صامت إلى فاعل قادر على صنع المستقبل.