بعد مرور عامين على حرب الإبادة في قطاع غزة، لا يزال الجرح مفتوحاً والكارثة مستمرة. لم تكن الحرب مجرّد حملة عسكرية على النمط المعتاد سابقاً، بل عملية تفكيك ممنهجة لبنية المجتمع الفلسطيني، استهدفت الإنسان والعمران، والمرأة تحديداً كانت كجسد ومعنى وركيزة للحياة، فأصبحت أحد ساحات القتال بسبب الإفراط بالعسكرة.
من خلال ما تقوله الأرقام وهي تقول ما يكفي، نكتشف واقعاً أشدّ قسوة مما ترويه التقارير. ومن خلال شهادات النساء، نرى أن الحرب لم تتوقف عند القصف، بل امتدت إلى كل تفاصيل الحياة اليومية: في الولادة، في الخيمة وفي الجوع، في النزوح والتهجير، وفي انتظار المفقودين.
وللاقتراب أكثر من الواقع، لا بد من القراءة العميقة لما خلف ما تنطوي عليه الأرقام والمؤشرات، فما تقوله أعمّ وأشمل، فوفق بيانات الأمم المتحدة ومنظمات نسوية عاملة في الميدان، شكّلت النساء والفتيات ما يقارب 70% من ضحايا العدوان. آلاف النساء فقدن أزواجهن، أطفالهن، أو أجسادهن في لحظة. ومع كل غارة جديدة، تتسع دائرة الأمهات الثكالى والأرامل والنازحات، حيث تشير التقديرات على صعيد النازحات إلى أن أكثر من مليون امرأة وفتاة نزحن داخل القطاع، كثير منهن عدن ونزحن مراراً مع كل موجة قتال، بينما تحوّلَت الملاجئ المؤقتة إلى أماكن مكتظة بلا خصوصية، ولا حماية، ولا ماء أو غذاء كافٍ وبيئة خصبة للعنف، والإذلال، والمرض.
لقد حولت الحرب الولادة من حدث سعيد إلى حدث محفوف بالموت، آلاف النساء الحوامل فقدن إمكانية الوصول إلى المستشفيات أو العلاج، وازداد عدد الولادات المبكرة والوفيات بين الأمهات والرضّع. وأصبحت قصص النساء اللواتي أنجبن على الأرصفة أو بين الأنقاض أحد المشاهد اليومية، في ظل انهيار المنظومة الصحية وغياب الدعم الإنساني الكافي.
وفي قراءة سريعة، تحوّل التجويع كأحد أسلحة الحرب في إطار سياسة ممنهجة، فالملايين يعانون من مستويات جوع كارثية، والنساء عادةً آخر من يأكل، يُؤْثرن إطعام أطفالهن على أنفسهن، فيما ينتشر فقر الدم وسوء التغذية الحاد بين النساء الحوامل والمسنّات، في خضم الفوضى برزت معلومات عن استغلال مقلق لبعض الشرائح الضعيفة مقابل الحصول على مساعدات غذائية أو مالية، ومع انعدام الأمان يصبح العنف القائم على النوع الاجتماعي ظاهرة صامتة لا تجد من يوثّقها أو يتابع إصلاحها.
لقد دُمر أو تعطل أكثر من نصف مدارس القطاع. توقّف التعليم للفتيات في أغلب المناطق، وفقدت النساء العاملات في التعليم والصحة والقطاع الأهلي وظائفهن، شهدت البنية النسوية المدنية التي بُنيت عبر عقود من العمل المجتمعي بعض الانهيارات، لتبدأ النساء من جديد في ظروف غير إنسانية.
خلف الأرقام، قصص يومية تُعبّر عن عمق المأساة: لمياء فقدت زوجها في القصف وأصبحت تُعيل ثلاثة أطفال في خيمة بلا ماء، وهدى، ممرضة نازحة، تعمل تطوعاً في مركز صحي متهالك لتقديم الإسعافات الأساسية، بينما سلمى حُرمت من حصتها من الإغاثة لأنها ضعيفة البنية ولا تستطيع المنافسة على الطوابير. هذه ليست استثناءات، بل نماذج لحياة النساء في زمن الإبادة، حيث يتحوّل الصمود إلى شكل من أشكال المقاومة اليومية.
رغم كل الدمار، برزت النساء كقوة بقاء، قُدن عمليات إغاثة محلية، نظّمن مبادرات لتقاسم الغذاء، وحافظن على الروابط الاجتماعية وسط انهيار الدولة والمجتمع. لكن المفارقة أنهن، رغم هذا الدور البطولي، أُقصين عن أي عملية تخطيط أو قرار، سواء في إدارة المساعدات أو في التفكير بإعادة الإعمار. النساء هنّ الواجهة الإنسانية للحرب وحافظات الحياة وتوازنها، لكن صوتهن لا يزال مغيّباً عن الظهور في المفاوضات والسياسات. فالخطط الدولية التي تُناقش مستقبل غزة لا تتضمّن مشاركة فعلية للنساء أو منظوراً نسوياً لإعادة البناء.
التوثيق الميداني متعثر بسبب القصف، ما يُضعف قدرة المنظمات النسوية على المطالبة بالعدالة والمساواة، لأسباب لا تُحصى منها أن صدمة الفقد، والخوف المستمر، والتهجير القسري تركت ندوباً طويلة الأمد، تتطلب برامج دعم متخصصة ومستمرة تبدأ أولاً: من توثيق الانتهاكات الجندرية بشكل ممنهج لمحاسبة مرتكبيها أمام المحاكم الدولية، وثانياً بتخصيص برامج دعم نفسي واجتماعي بإشراف نساء مختصات تعالج صدمات الحرب، وعبر تمويل مباشر للمنظمات النسوية المحلية بدل تمرير الدعم عبر الوسطاء السياسيين ثالثاً، ومن ثم التوجه نحو تحريك المجتمع الدولي للاعتراف بما جرى كجريمة إبادة ذات بعد نسائي مستهدف بوضوح رابعاً، كما تتطلب خامساً الاهتمام الكافي باستهداف إدماج النساء في جميع مراحل إعادة الإعمار من التخطيط إلى التنفيذ.
في آخر السطور، يمكن القول: إن المرأة الغزّية لم تكن فقط ضحية، بل شاهدة على أقصى درجات التوحش الإنساني في وجه العزلة والخراب، لأنها لم تقف حائرة أمام مهماتها، بل واصلت دورها كعمود البيت وذاكرة الجماعة، وكأنها تقول للعالم: قد يدمّر الاحتلال المدن، لكنه لن يطفئوا الإرادة الحرة، وإن إعادة إعمار غزة لا تبدأ بالإسمنت، بل بإعادة الاعتبار لدور النساء وكرامتهن لأنهن قمْن بحماية الحياة وسط الموت، وتعلن أن أي حديث عن العدالة للشعب الفلسطيني يستثني العدالة النسوية، سيبقى مجرّد شكل من أشكال الصمت العالمي على الإبادة.