يقول المؤيدون لـ»حماس» في دفاعهم عن هجمات 7 أكتوبر، التي كانت سبباً في اندلاع الحرب، إنها ممارسة طبيعية لحق المقاومة ضد الاحتلال، وإنَّ كل أساليب المقاومة مشروعة ويجب تبنيها بصرف النظر عن النتائج، ومهما بلغت التضحيات.. فهل هذا الطرح سليم؟ وهل التشكيلات العسكرية شبه النظامية هي الشكل المطلوب للمقاومة؟.
للمرة الألف نكرر أنَّ المقاومة نهج مشروع لمقاومة الاحتلال، وهي حق وواجب كفلته كل الشرائع والقوانين.. ولكن، حتى تكون المقاومة نبيلة ينبغي أن تكون أهدافها الدفاع عن الشعب، وحمايته من العدوان، وخدمة مصالحه، بحيث يكون الإنسان هو حجر الزاوية، والأساس، والمبتغى.. وبعكس ذلك يعني انقلاباً على فكرة ومفهوم المقاومة، أي حين يصبح الشعب هو خادم وحامي المقاومة، وتصبح الأولوية لتأمين حياة المقاومين وقادتهم، ويصبح الإنسان آخر همّ المقاومة، بل مجرد رقم في طريقها لتحقيق أهدافها، والتي ستتحول إلى أهداف حزبية تصب فقط في مصلحة الحزب أو الجماعة التي تمارس المقاومة.
وتصبح التضحية بالشعب مشروعة ومقبولة حتى لو تحقق النصر ولم يجد من يحتفل به.. لأن المقاومة في هذه الحالة تحولت من أسلوب وأداة إلى غاية بحد ذاتها.
المقاومة فكرة تشاركية بين المقاومين وحاضنتهم الشعبية، ولكلٍ منهم دوره المحدد والمهم، بحيث تكون نهج حياة؛ فهي فعل إنساني وأخلاقي وسياسي لشعب يرفض الاحتلال، ويتطلع للحرية، وعيناه على المستقبل.
والمقاومة قبل كل شيء هي خيار الحياة وليس الموت.. وبالتالي لا يحق لمن يمارس المقاومة «المسلحة» الادعاء باحتكار المقاومة وإنكار دور الآخرين (الجماهير)، ولا يحق لأي جهة أو قائد مهما كانت مكانته أن يأخذ كل الشعب إلى حيث يريد، خاصة إذا كان سيأخذهم جميعاً إلى الحرب (الموت)، دون إرادتهم، ويصادر حقهم في الاختيار؛ اختيار أسلوب المقاومة، أو حتى اختيار الحياة الطبيعية العادية، ويصادر حتى حقهم في الموت الطبيعي.. فالحياة مهمة ومقدسة وهي هدف مشروع تماماً بنفس قدر مشروعية الكفاح.
المقاومة مجرد وسيلة، ومن الخطأ حصرها بالسلاح فقط؛ الشعوب المحتلة تتحول أساليب حياتها إلى مقاومة، وحتى تنتصر ينبغي أولاً جلب الدعم والتعاطف العالمي لقضيتها، وثانياً: انتهاج سياسات تؤدي إلى تفكيك جبهة العدو، وتعزيز تناقضاته المجتمعية والسياسية، وثالثاً: اتباع الأساليب التي لا تؤدي إلى هزيمتها هزيمة كاملة، ولا تضعها أمام نكبة جديدة، بل تدعم وتعزز صمودها.
أي ممارسة شكل المقاومة المناسبة التي يمكن البناء عليها ومراكمتها.
ولو كانت الحرب هي الشكل المطلوب للمقاومة فلماذا نطالب بوقفها؟ .
ولا ينبغي للمقاومة أن تأتي على شكل مغامرات غير محسوبة، أو هبّات عاطفية، أو ردة فعل غرائزية وموسمية.. المقاومة فعل واعٍ ومنظم ودقيق، ويجب أن تظل ممارستها عقلانية وذكية وفق ضوابط ومحددات، وتبعاً لتخطيط محكم وسياسة ناضجة.. وخلاف ذلك لن تجر على شعبها سوى الخيبات والهزائم والتضحيات المجانية.
ما هو الخيار الأفضل: الطوفان، أم استمرار الوضع كما كان؟
التفكير بنهج «المطلق»، والثنائيات الحادة، وحصر الإجابة بنعم ولا، وعقلية الأبيض والأسود، وعدم رؤية طيف كامل من الألوان.. هو ما يضعنا دوماً أمام هذه الحيرة، ويجعلنا مشلولين عن التفكير السليم، واتخاذ القرارات الصحيحة..
في هذه الحالة يصبح سؤال: الحرب، أم الاستسلام والخنوع؟ سؤالاً فاسداً من الأساس، وينم عن تفكير بدائي.. بين الحرب والخضوع خيارات لا حصر لها ولا عد.. خيارات ثورية ونضالية ومقاومة.. ولكن بناءً على إستراتيجيات وطنية مبنية على تفكير عقلاني، وبروح قتالية مسؤولة.
قررت حماس نقل المقاومة إلى مستوى آخر، غير مسبوق، بنقلها إلى صورة حرب عبر هجمات 7 أكتوبر، وقبل ذلك خاضت أربع حروب صاروخية ضد الاحتلال، أدى كل ذلك إلى هذه النتيجة من الدمار والتضحيات.. في النتيجة أقصى ما يمكن تحقيقه العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، واحتساب التضحيات لوجه الله.
في الخطاب الإعلامي والسياسي توافق حماس على برنامج الدولة الفلسطينية (برنامج منظمة التحرير)، وترحب باعتراف العالم بالدولة الفلسطينية، وتعتبره إنجازاً مهماً.. طالما الأمر كذلك، ألم يكن ممكناً الوصول إلى هذه النتيجة وخوض نضال مشترك ببرنامج موحد دون الحاجة لمئات آلاف الضحايا وتدمير غزة بالكامل!
لو كانت التنظيمات الفلسطينية تتعلم من تجاربها السابقة، لتفادت الكثير من الأخطاء؛ فمثلاً، حين انطلقت حركة فتح رفعت شعار «التوريط الواعي»، ثم تبين أن هذا الشعار مبني على حسابات خاطئة ومتفائلة أكثر من اللازم، فبدلاً من إقحام الأنظمة في حرب مع الاحتلال دخلت في صدامات مسلحة مع الثورة نفسها.
حتى نوقف مسلسل الانحدار والهزائم، ونستعيد الإمساك بزمام المبادرة يجب أولاً التخلّص من لغة الشعارات والخطابات والتفكير العاطفي والرغبوي، وهذا يتطلب إعادة فهم ذاتنا من جديد، وتقييم قدراتنا، وإعادة فهم عدونا أيضاً، بمنهج علمي متحرر من العواطف والإنشاء.
وهنا أذكّر بخطاب مهم لخالد مشعل (أيلول 2016)، حيث قال في الدوحة: «أتحدث بصفتي رئيساً للحركة»، «لا يحق لحماس الاستئثار بقرار الحرب»، «استسهلنا الحكم بمفردنا»، «اعتقدنا أن زمن فتح قد ولى وانتهى، وحل زمن حماس، وهذا كان خطأ فادحاً»، «حاولنا التفرد بقيادة منظمة التحرير»، «يجب أن نتحد جميعاً على برنامج سياسي واحد وأن نتفق على القواسم المشتركة»، «بالغنا في تقدير الموقف، بسبب قلة الخبرة وغياب المعلومة الدقيقة، وبسبب الخلل والنقص في التعامل مع شركاء الوطن، واعتماد نظرية البديل الخاطئة، والصحيح يجب أن يكون هناك شراكة مع كافة شرائح الوطن».
لماذا لم تترجم حماس هذه المراجعات؟ ولم تبنِ عليها؟ بل استمرت في النهج ذاته: نهج التفرد وإقصاء الآخرين، وعدم القبول بأي شراكة مع أحد!
إذا لم نتعلم من هذا الدرس القاسي، ولا من دروس وتجارب التاريخ، وما لم نطور أساليبنا ونرتقي بفكرنا السياسي، سنظل نكرر الفشل، ونحصي الهزائم.
وبعد كل هذا الحصاد المر، وهذه المقتلة المفتوحة.. أليس غريباً ومستهجناً أن نسمع أصوات المقامرين الذين ما زالوا يطالبون بمزيد من الدم المسفوك، ويطالبون أهل غزة باستخدام لحوم أطفالهم لمواجهة الدبابات!
هؤلاء حقاً لا تعنيهم دماء شعبهم، ولا مصير فلسطين كلها، يضاف إليهم المغيبون الغارقون في الأحلام، الذين غسلت «الجزيرة» أدمغتهم، والكثير من المتبجحين الذين لا يعرفون شيئاً عن جغرافية وواقع غزة، المهم أن تظل مادة خصبة للشعارات والأشعار ومنشورات الفيسبوك.