منذ النكبة الأولى عام 1948، لم تكن فلسطين مجرد أرضٍ محتلة أو قضية سياسية عابرة، بل غدت ذاكرة جماعية تعيد تشكيل وجدان الأمة العربية والإسلامية. هذه الذاكرة لم تتجمد في كتب التاريخ أو في خطابات المناسبات، بل انتقلت حيّة من جيلٍ إلى آخر، محمولة في تفاصيل الحياة اليومية، وفي الحكايات التي يرويها الأجداد للأحفاد، وفي المفاتيح التي احتفظت بها العائلات كرمزٍ لحقّ العودة الذي لا يسقط بالتقادم.
لقد حاول الاحتلال الإسرائيلي، عبر العقود، طمس هذه الذاكرة بشتى الوسائل: تغيير المناهج، طمس أسماء المدن والقرى، السيطرة على المقدسات، وحتى عبر تزييف الرواية التاريخية. إلا أن النتيجة جاءت معاكسة؛ إذ تحوّل القمع إلى وقودٍ يعمّق الانتماء، وولّد مقاومة بأشكال متعددة، من الكلمة والصورة إلى الفعل الميداني. فالذاكرة ليست ترفًا، بل سلاحًا يحفظ الهوية ويمنح معنى للصمود.
اليوم، يقف الفلسطيني في مواجهة معقدة: من جهة حصار وعدوان مستمر، ومن جهة أخرى موجة تطبيع عربي تكاد تجعل من الاحتلال أمرًا عاديًا في العلاقات الإقليمية. ومع ذلك، لم تفقد الذاكرة الفلسطينية معناها ولا حضورها. بل إن كل جولة صراع تعيد إنتاج هذه الذاكرة بصيغ جديدة، وتجعلها أكثر رسوخًا في وجدان الأجيال الشابة التي لم تعش النكبة أو النكسة، لكنها تعيش كل يوم آثارها المباشرة.
إن معركة الذاكرة لا تقل أهمية عن معركة البندقية. فالمقاومة ليست فقط مواجهة عسكرية، بل أيضًا حماية السردية من التشويه. إن التمسك بحق العودة، واستمرار إحياء ذكرى النكبة، ومقاومة الأسرلة في القدس، كلها أشكال مقاومة تحفظ للهوية أصالتها وللشعب حقه في الأرض والتاريخ. وحين يسعى الاحتلال لفرض واقع جديد، تبقى الذاكرة حجر العثرة الذي يحول دون محو فلسطين من الخريطة أو من الوعي