الحقيقة أنّ العنوان لا يكتمل إلّا إذا قلنا: «مأساة فلسطين وملهاة العرب والمسلمين».
مأساة فلسطين بمعنى ما حلّ بها بسبب هوان العرب وخذلان المسلمين، والملهاة بمعنى أن هؤلاء العرب والمسلمين إن لم يستفيقوا بعد العدوان على الدوحة، فقد انتهى دورهم، ولم يعد أمامهم سوى أن ينتظروا دورهم في الاستهداف الأميركي الصهيوني الذي سيأتيهم تباعاً جميعاً، فرادى وجماعات، بعد أن تكون المأساة الفلسطينية قد اكتملت.
الحقيقة المُرّة أن مأساة فلسطين ليست لها علاقة بمقاومة الفلسطينيين للاحتلال الذي سرق منهم أرضهم، واستولى على وطنهم، وشرّد أهلهم، وأجرم في قتلهم وتقتيلهم، وسطا على حقوقهم ورواية وجودهم، واستباح إنسانيتهم على مدار سبعة عقود كاملة، وهو يجاهر ويفاخر بكل ما قام به، ويهدّد بالمزيد، بكل ما يملك من قوة وبطش، وبكل ما «يتمتّع» به من تحالفات ودعم وإسناد، وبكل ما لديه من وسائل وإمكانيات في كل المجالات.
نعم، ليست مقاومة الشعب الفلسطيني التي يعترف بها القاصي والداني بأنها بطولية، وأنها عادلة ومشروعة، ليس الآن، ولا بالأمس القريب، وإنما منذ البدايات الأولى لظهور المشروع الصهيوني، ومنذ الخطوات الأولى لبدء تنفيذه على الأرض الفلسطينية.
مأساة فلسطين بدأت في ظروف نشأتها وتكوينها، وفي ظروف تطورها من «الترابط» بالواقع العربي والإسلامي الذي لم يكن في ظروف نشأته وفي ظروف تكوّنه سوى واقع كابح للمقاومة الفلسطينية، وموات تماماً لنجاح المشروع الصهيوني، عاجز عن مواجهته. الحقيقة المُرّة والساطعة، أيضاً، أن المأساة الفلسطينية قد بدأت وتكرّست في مراحل متتالية منذ نشأتها الأولى، واستمرّت، وتتالت عمقاً وتفاقماً بسبب عدم قدرة الشعب الفلسطيني، وعدم تمكّنه وتمكينه من مقاومة المشروع الصهيوني بما يحتاج من وسائل وإمكانيات تتيح له وقف تمدده على الأقل، في ظل معرفتنا أنه كان مشروعاً هائلاً في قدراته ومقدّراته، وفي حجم الدعم الشامل من كامل المنظومة الاستعمارية الغربية ضد شعب صغير عديم الإمكانيات في غالب الأحيان.
الارتباط العضوي والصميمي بين الواقع العربي الإسلامي وبين تمكين الشعب الفلسطيني من مجابهة المشروع المعادي كان ولا يزال هو نقطة الضعف الأولى في مسار مجابهة المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية بالرغم من كل المحاولات، والتضحيات التي قدمتها الجيوش العربية على مدى كل حروبها مع الكيان الكولونيالي.
السبب في كون هذا الارتباط هو نقطة الضعف الأكبر في كامل معادلة الصراع هو أن النظام العربي بين الحربين العالميتين، وبعد الحرب العالمية الثانية لم يكن سوى نظام هشّ، محكوم بعلاقاته الأساسية بالمصالح الاستعمارية، ولم يكن سوى نتاج للبنى السياسية التقليدية، والهياكل الاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن علاقات شبه إقطاعية، وعن برجوازيات ناشئة بصورة مشوّهة، وامتدادات محكومة بالسيطرة والهيمنة الاستعمارية.
المنظومة السياسية والاجتماعية الفلسطينية لم تكن تختلف نوعياً عن البُنى العربية والإسلامية، مما أعاق وكبّل ومنع في بعض الأحيان أو حدّ على الأقل من قدرة الشعب الفلسطيني على تنظيم مقاومة ناجعة ضد المشروع الصهيوني.
الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني، والبطولات الهائلة التي أبداها في ظل هذا الواقع المرير لم تتمكّن من صدّ الهجمة العدوانية، ولم تحل دون وقوع النكبة، وما تلاها من نكسة، واستكمال احتلال كامل الوطن الفلسطيني، ولولا الهشاشة التي خرج منها النظام العربي بعد هزيمة حزيران 1967 لما تمكّن الشعب الفلسطيني من إعادة رصّ صفوفه، ومن إعادة انطلاق مقاومته بعدها.
نستخلص من هذا كلّه أن المأساة الفلسطينية كانت بسبب ضعف كفاية الكفاح الوطني، وعدم نجاعة المقاومة في ظل الواقع الذي أشرنا إليه، وليس بسبب الكفاح والمقاومة.
ثمّ ما هو الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني الآن بالمقارنة مع ثمن النكبة، واحتلال واغتصاب كامل فلسطين، وتشريد ملايين الفلسطينيين بعد اقتلاعهم وطرد أكثر من نصفهم إلى خارج فلسطين، والفتك بمن تبقّى منهم، والتذرّع بـ»طوفان الأقصى»، لإبادتهم في قطاع غزّة، واستباحة واستهداف كل ما هو فلسطيني في الضفّة، وممارسة أبشع أنواع التمييز القومي العنصري ضدّ كل من بقي في الداخل الفلسطيني.
ما هو الثمن الذي يفوق الاستيطان المتغوّل، والسيطرة على الأرض والموارد، وما هو الثمن الذي يفوق قانون القومية، ومنع قيام دولة مسالمة على أقل من 22% من فلسطين التاريخية، وما هو الثمن الذي يفوق «ضمّ» القدس، والضمّ الزاحف في كل مكان، والتهديد والوعيد بالموت أو الخنوع أو الطرد حسب برامج الحكومة الفاشية؟
هل كان الشعب الفلسطيني قبل هذه الحرب «يستمتع» برغد العيش في الضفّة والقطاع؟ وهل كان قاب قوسين أو أدنى من حصوله على حقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلّة، أم أننا كنّا أمام برامج منظمة لتصفية القضية الوطنية من أساسها، واقتلاع جذورها، وتصفية منهجية منظمة لكل مقوماتها ومكوّناتها؟
إن الادعاءات التي تحاول تصوير مقاومة الشعب الفلسطيني، اليوم وسابقاً، والادعاءات التي ستصوّر هذا الكفاح الوطني، وهذه المقاومة، على أنها سبب المأساة الفلسطينية هي ادعاءات ساذجة، وربما تكون أكثر وأبعد وأخطر من ذلك.
الملهاة الحقيقية مقابل هذه المأساة هي البيانات والاستنكارات، ومواويل الشجب والإدانة، مرّة بأشد العبارات، ومرّات أخرى بعبارات أكثر رخاوة في مواجهة حروب إبادة جماعية وتجويعية مستمرّة، ومذابح ومجازر متواصلة.
الضعف الفلسطيني في معادلة الصراع ليس سبباً مباشراً في مأساة الفلسطينيين بل هو نتيجة الواقع الذي يحدّ من قدرة الفلسطينيين على المقاومة. والملهاة التي يمثلها الواقع العربي والإسلامي حتى الآن هي السبب المباشر والأكبر والأخطر في هذه المأساة.
هل يستطيع النظام العربي الإسلامي أن يشرح لنا كيف واجه حرب التجويع؟ إذ يفاقم العطش مأساتهم حتى الآن؟
هل لديه تفسير واضح ماذا يعني الوقوف ضد التهجير إذا كانت مناطق كاملة من القطاع قد تمّ تهجيرها لسبع أو ثماني مرات حتى الآن داخل القطاع؟
وماذا سيتبقّى من مفهوم التهجير عندما لا يستطيع الأهل في القطاع أن يتركوا أطلال بيوتهم لأنه لا يوجد مكان فيه أكثر أمناً من أنقاض بيوتهم؟
هل نفهم مثلاً أن الإبادة الجماعية ما دامت داخل القطاع هي مقبولة؟ والمهم ألا يتمّ التهجير والاقتلاع إلى خارجه؟
نسأل هذه الأسئلة لكي يفهم النظام العربي الإسلامي الذي يعقد قمته في الدوحة أن الأمر لم يعد يحتمل المزيد من خطابات الشجب والاستنكار، فهذه هي الفرصة الأخيرة للخروج من هذه الدوّامة الجهنّمية، وهذا الفصل المرعب من المأساة الفلسطينية.
لا أحد يطلب أكثر من استخدام الأوراق الفاعلة التي تمتلكها القمة، وليس مطلوباً أن تحارب القمة نيابة عنّا، ولا إلى جانبنا، وإنّما التهديد بتجميد العلاقات، إذا كان متعذّراً قطعها مع دولة الاحتلال، التي تعلن هي، ولا يقال على لسانها إنها ستضرب متى تشاء، وكيف تشاء، في أي مكان وزمان، وأنها تسعى وتحاول، وتعدّ العدّة للتوسّع في البلدان العربية بالتحديد والتسمية.
أقصد أن الأمر لم يعد يتعلّق بفلسطين، وبات يتعلّق بوجود وحاضر ومستقبل النظام العربي الإسلامي.
يكفي أن يُقال للولايات المتحدة الأميركية، إننا نحن العرب، ونحن المسلمين، ونحن الخليجيين، سنبحث عن التحالفات التي تؤمّن لنا الحماية من التهديدات الصهيونية لبلداننا وشعوبنا، وسيادة دولنا!
أنذروا الكيان الصهيوني، وأعطوه أسبوعاً واحداً لوقف الحرب الهمجية والتوحشية في القطاع. وإلّا أنتم ذاهبون نحو تجميد العلاقات، وربما قطعها بالكامل، ثم إنهاء العمل بكل الاتفاقيات.
حاولوا، جرّبوا وسترون النتيجة بأنفسكم.
وسأقول لكم ماذا سيحدث إذا لجأتم إلى هذه القرارات، وأظنّ أن الغالبية الساحقة من أبناء أمتنا العربية والإسلامية، ومن غالبية الشعب الفلسطيني تعرف مثلي، وربما أكثر مني ما الذي سيحدث.
ببساطة ستوقف الحرب الإبادية الجماعية قبل انقضاء المهلة، ودونالد ترامب سيتصلّ لينهيها بالهاتف، وأنتم ستكونون في مأمن ما بعده مأمن للمرّة الأولى بعدها، وسينقلب سحر بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الفاشية، المطلوب لـ»الجنائية الدولية» على الساحر الفاشل نتنياهو، وستهتز المنطقة والإقليم دون أن تطلقوا طلقة واحدة، ودون أن تشكّلوا جيوشاً جديدة، وستقدمون لشعوب هاتين الأمتين أكبر إنجاز لكم في كامل تاريخكم.
هذا ليس من قبل التنجيم السياسي، ولا هو ضرب في الرمل المتكدّس في الصحارى العربية، هذا بكل بساطة هو الاستنتاج العلمي والمنطقي للأهمية الخاصة بالمنطقة التي نعيش عليها، وهي المنطقة التي تشكل الحصن الأخير، والقلعة الوحيدة لـ«الغرب» كلّه، ودوره في معادلات الصراع الدولي.
جرّبوا مرّة واحدة وسترون بأنفسكم.