لا فلسطين أخرى
نشر بتاريخ: 2025/09/14 (آخر تحديث: 2025/09/14 الساعة: 23:45)

يزداد الاحتلال توحشًا وتطرفًا، وهو يواصل حرب الإبادة والتهجير، ولا يكتفي بذلك، بل تخرج علينا جماعات أكثر تطرفًا لتملأ شوارعنا بيافطات مكتوب عليها «لا مستقبل لكم هنا»، في دعوة إرهابية مفادها أن نخرج من أرضنا، وبيتنا وحقلنا وهوائنا وشمسنا وجامعتنا ومدرستنا. هذه الدعوات التي يجاهر بها الاحتلال ليست جديدة، بل هي منذ بدء احتلال أرضنا ووطننا. ودائمًا كان شعار الفلسطيني: «لا فلسطين أخرى» باقون، باقون، فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا، أما نحن فباقون ما بقي الزعتر والزيتون، لا فلسطين أخرى غير فلسطين التي نعيش على أرضها وتحت سمائها وشمسها وقمرها.

لقد بلغت عنصرية الاحتلال ما بلغت من تطرف وإرهاب، وظهرت أبشع صفات الاستعمار الحديث في الغالبية التي تحكم هذا الكيان، الذي وصل فيه الأمر إلى ما وصل من فصول الإبادة والتهجير ضمن سلوك بربري يستمد قوته من أمريكا التي تدعمه عسكريًا وسياسيًا وتمنحه الغطاء ليواصل احتراف القتل المستمد من عقيدة الموت والقتل والتجويع والحصار. ولولا هذا الدعم الأمريكي ما كانت دماؤنا الذبيحة تجري كسيل نهر لا يجف أمام أعين العالم التي ترى وتشهد أبشع إبادة جماعية عرفها التاريخ الإنساني بالصوت والصورة، وقد وقفت طويلًا صامتة لا تحركها مشاعر الإنسان نحو أخيه الإنسان لوقف هذا القتل والموت والتجويع والحصار.

لقد مرت أشهر طويلة والناس تنتظر صحو ضمير العالم، وأن تتحرك قواه الفاعلة لوقف المقتلة، ولم يحدث ذلك.

إن ما نراه في الطرقات عبر يافطات عنصرية بغيضة ترفع شعارات التهجير والطرد والوعيد، يأتي مصحوبًا بمزيد من القتل والاستهداف، ومن الإجراءات الاستيطانية والفصل العنصري ومصادرة الأراضي وتقطيع الأوصال وتشديد الحصار بالبوابات التي تمنع الحركة وتوقف التنقل بين المدن والقرى، وتضع المواطن الفلسطيني في الضفة الفلسطينية داخل ألف حصار. فعدد البوابات الحديدية التي نُصبت حتى اليوم يفوق ١٢٠٠ بوابة، إلى جانب جدار الفصل العنصري، وما أكثر العنصرية التي يفرضها الاحتلال بالجدران والأسلاك الشائكة والبوابات.

إجراءات متصاعدة وسياسات قهرية واعتداءات لا حصر لها، وإفقار منظّم وقرصنة الموارد والأموال وخنق اقتصادي عام، وشعارات عنصرية وتغوّل استيطاني في شتى المجالات الزراعية والصناعية والتجمعات السكنية، ومطاردة مستمرة لدفع الفلسطيني إلى الهجرة مع تضييق منظم شامل لكل نواحي الحياة، وأمام كل ما يحدث يظل صوت الفلسطيني صادحًا، لا فلسطين أخرى، باقون باقون، وهذا ما يجعل يمين التطرف داخل الكيان أكثر جنونًا ونجد بنغفير يزيد من عمليات تسليح المستوطنين بالأسلحة الرشاشة بلا ضوابط، الأمر الذي سيعود على مجتمع الكيان بمزيد من الخراب، إلى جانب خطورة أولئك على أرض الواقع، واعتداءاتهم المتكررة على الفلسطينيين، وهذا أيضًا يحدث أمام عين العالم الذي يرى ويسمع ويشاهد وكثيرًا منهم يلوذ بالصمت.

لقد فشل الكيان عبر سنوات عمره أن يجد في عمق الأرض الفلسطينية ما يثبت مزاعمهم، كما فشلوا في عمليات الحفر والاستكشاف التي جلبوا لأجلها أهم وأبرز الباحثين في العالم، وعلى مرّ السنوات باءت عمليات التنقيب والحفر بالفشل، فلم يجدوا شيئًا يستندوا إليه يثبت مزاعمهم بأحقيتهم بفلسطين، فكل الروايات التي استندوا إليها أبطلتها هذه الأرض بعمقها الحقيقي الذي لا يقبل التزوير والتزييف.

لا فلسطين أخرى تعني أن الشعب الفلسطيني لن يهاجر ولن يغادر أرضه ووطنه، وتعني أن كل محاولات تزوير التاريخ وتغيير الجغرافيا لا تفيد القتلة، وأن فلسطين أرضًا ووطنًا ليست أرضًا توراتية كما يزعمون، ولا عدة ممالك قائمة على وهم الخرافة، وأن ما اقترفه الاحتلال من إبادة وما يقوم به من ممارسات على الأرض، لن يضعف حق الفلسطيني في أرضه، بل هي أعمال غير شرعية، تقوم على الكذب والتزوير، وتحتكم لشريعة الغاب وهذه محاولة فاشلة لتشويه التاريخ عمدًا وقصدًا. فهذه فلسطين إرث كنعان الأول، وبشائر حياة الفلسطينيين وما ورثنا منهم من صفات وجينات وقسمات في مراحل عمرنا عبر القرون التي خلت، وهذا يقطع كل لوثة يريد الاحتلال تثبيتها زورًا ممن يحاولون تشويه التاريخ والجغرافيا، في الزمن الذي انتكست فيه المبادئ في فوضى عارمة من تراجع مواقف الدول وانهيار الكثير من الأحزاب والأحلاف وتعالي مبدأ العربدة والاحتكام إلى القوة ومقدار الدموية والإجرام.

قيل أن كل شيء مباح في الحرب والحب، وفي مسافة بيننا وبين الحب تظل الحرب قائمة تستبيح كل عواصم المنطقة وكل البلاد والعباد، وكأنها القدر المباح كل هذا الوقت، فهي تواصل دموية دورتها من دون استئذان وتقتحم العواصم وتضرب البلاد والعباد بطائرات العدو وقنابل الموت وصواريخ القتل والخراب، فحالات الترهيب تفوق كل ترغيب، والوضع الراهن أصعب بكثير مما مضى في ظل استقواء عنصري آثم وفاشية غير معهودة، مدعومة بغطاء وفيتو أمريكي، وسياسة ضغط وترهيب بالوعد والوعيد، وبشتى الوسائل وسبل التهديد، وبكل ما أوتيت من قوة ومن أدوات فاعلة على المسرح العالمي والدولي.

لقد بلغت عنصرية الاحتلال أعلى درجات العنصرية، وهذه العنصرية والرعونة لا يمكن لها أن تتوقف إلا إذا اتخذ العالم مواقف جادة وحقيقية تجاه كل أشكال التطرف الأعمى، وتجاه الاحتلال الذي يجب أن ينتهي، وهذا يستدعي من أمريكا أن لا تبقى تدور في فلك الانحياز، بل أن تعود لرشدها وأن ترفع الغطاء السياسي وتوقف الدعم العسكري عن الكيان، وتدعم قرارات الشرعية الدولية، على قاعدة الحقوق المشروعة وحل الدولتين.

مرة أخرى اختارت أمريكا هذا الانحياز في مواجهة العالم، حيث ما تشهده اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة من حراك كبير داعم للحق الفلسطيني بإقامة الدولة والاعتراف الأممي بها، إلا أن أمريكا تقف معارضة بيدها الفيتو وفي اليد الأخرى تلوح وتهدد وتضغط على الدول في مشهد مخزٍ ومنحاز، غير قانوني وغير أخلاقي، وفي السياق ذاته تواصل أمريكا إعلاء صوت التطرف والكراهية، وهي تعبر عن ذلك بمواقفها الداعمة للاحتلال وسياسات اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو، رافضة تطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بفلسطين.