إسرائيل إذ تفقد حصانة خطاب الهولوكوست ..!
نشر بتاريخ: 2025/09/05 (آخر تحديث: 2025/09/05 الساعة: 22:26)

في الحروب الكبرى تسقط هياكل ودول ومؤسسات، وتسقط أفكار أيضاً من تلك التي ثبت انهيارها أمام حقائق الواقع ....فما بعد الحروب ليس كما قبلها ومع كل حرب من تلك التي غطت اهتمام الكون وعواصمه الكبرى كان يولد عالم جديد وأفكار جديدة تطوي تلك القديمة التي اعتقدت بقدرتها على الصمود وعلى الاستمرار بالحياة، كذلك في حرب الإبادة على غزة بعدها سيكون العالم الذي وقف أمام مرآة «نرسيس مختلفاً» والإقليم الذي يعاد توزيع ممكنات القوة بين عواصمه من عواصم صعدت وأخرى تلقت ضربات وانكمشت، وعلى المستوى الفلسطيني سقطت أفكار ثبتت خفتها وسطحيتها وفداحة كلفتها خاصة برنامج القوى الدينية وأبرزها حركة حماس بعد ارتطامها بالأرض وتجريف غزة.

لكن الانكشاف الأكبر أمام البشرية هو ما فقدته إسرائيل في هذه الإبادة فحملة الجنون التي قادها هذا العقل المصاب بعقدة التاريخ فأصبح مختلاً، عندما هرع العالم ذات يوم لينقذ اليهود من النازي الأوروبي الأبيض كانت ردة فعل القارة إقامة دولة لليهود في فلسطين كنوع من تطهير الضمير الأوروبي الذي أنتج منتصف قرنه الماضي أكثر الحركات السياسية جنوناً «الفاشية والنازية».

يبدو أن هذا الضمير بدأ يتلمس حجم جريمته القديمة وهو ما تدفع ثمنه دولة الإبادة الجديدة «سمعتها الدولية» هذا ما قاله ترامب هذا الأسبوع مدركاً أن ما حدث لا يمكن تبييضه مهما بلغت قوة الإعلام والمال.

الأكثر وضوحاً وأخطر ما قيل هذا الأسبوع في مواجهة السردية الإسرائيلية هو ما صرح به أبراهام بورغ رئيس الكنيست السابق والقيادي السابق في حزب العمل «أن إسرائيل فقدت حصانة الهولوكوست وأننا نشهد نهاية عصر الضحية» مسدلاً الستار على سردية عاشت لثمانية عقود قبل أن تبلغ ذروة انكشافها، وهي ليست مسألة عابرة بل مغروسة عميقاً في أيديولوجيا قديمة كانت المحرقة أزاحتها مؤقتاً لصالح الضحية بمعزل عن أفكارها وهلوساتها، لكن تلك الهلوسات تترجم نفسها مستدعية كل شوفينية قديمة كانت كامنة لفترة أو تغطت بجرائم أربعينيات أوروبا وصخب سلاحها وغبار معاركها.

أبراهام بورغ واحد من حكماء إسرائيل في عقديها الأخيرين عمل كما ذبابة أفلاطون واعتاد على لسع حمار إسرائيل من تقرحاته النتنة موجهاً ما يملك من أفق سياسي تميز به ليطلق أجراس إنذار وسط الجنون الذي تندفع إليه محاولاً أن يطلق صرخة ديوجينيس ويحذر ذات يوم «لا يمكن للدولة أن تعيش على السيف للأبد» لكن حين يتغلب الجنون يضيع صوت الحكمة.

أبراهام بورغ الذي خبر التجربة قادماً من أعماقها ليترأس برلمانها يوماً وبعدها يترأس وكالتها اليهودية منذ طفولته كابن للحاخام يوسف بورغ أحد زعماء المفدال، وخلال تلك التجربة كان يراقب ويقرأ ويسمع ليصبح أحد أهم حكام الدولة وحكمائها.

قبل حوالى أربعة عقود كان الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش يقول بلغته العالية ما يقوله بورغ متسائلاً «أَمِن مزامير يصكُّون السلاح ؟ ...ضحية قتلت ضحيتها وكانت لي هويتها»...منادياً على أشعيا بأن يخرج من الكتب القديمة فوق مطالع العهد القديم ويدعي أن الضحية لم تغير جلدها، لكن الأسطورة لها أرجل وأقدام وتراث أيديولوجي تتحول إلى ثقافة وتلك تصبح ممارسة سياسية لا يمكن إخفاؤها، وهو ما يدركه بورغ ويدركه كل متابعي الشأن الإسرائيلي بأن الضحية لم تغير جلدها لأن الجينات الفكرية أكثر رسوخاً من محطات التاريخ العابرة.

لحظة تشكيل هذه الحكومة كنت من الذين اعتقدوأ أن لحظة جديدة تولد فاصلة بين يهوديتين واحدة مزيفة هي هجين بين دينية هاذية وبين علمانية حداثية نشأت بعد عصر النهضة في أوروبا استمرت لثلاثة أرباع القرن، إلى أن اكتملت الإزاحة في المجتمع والدولة في إسرائيل نحو يهودية خالصة شكلت انقلاباً على إرث التأسيس. كان التعبير الأبرز عن مقاومة القديم تظاهرات تشهدها شوارع تل أبيب وأثناء هذا التغيير كانت تتساقط صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية حضارية تحترم القانون ومعها تتلاشى رويداً رويداً صورة الضحية وتنكمش إسرائيل على يهوديتها لتجيء الحرب وتعطي شحنة تسريع لمسار التاريخ الذي كان يتقدم بهدوء.

ومن هنا يأتي الاعتراض على عملية حماس الكبرى لأن مسار التاريخ يسير نحو محطته الأكيدة وهي نبذ إسرائيل دون تدخل خارجي، كان يجب أن تترك للتفاعلات الإسرائيلية أن تُسدل الستار على إسرائيل القديمة ومعها صورة الضحية لكن الأمر أصبح أكثر وضوحاً.

مطلع الإبادة قال وزير الدفاع الأميركي السابق لويد أوستن جملة لم تفهمها الدولة المتغطرسة وهي «إسرائيل أمام هزيمة استراتيجية» والآن يعود الرئيس الأكثر التصاقاً بإسرائيل دونالد ترامب ليقول: «إسرائيل تخسر سمعتها الدولية»، إسرائيل ليست دولة مركزية بمفهوم الدول لا من حيث التاريخ ولا الجغرافيا ولا الديمغرافيا، كل تلك تبدو هشة بالمعنى الوجودي لكنها عاشت مدعومة على سمعة الضحية وحصانة الهولوكوست .... بورغ يقول انتهى ذلك .....هذا مهم.

نقلاً عن جريدة الأيام