كتاب ميكافيللي الثاني!
نشر بتاريخ: 2025/08/27 (آخر تحديث: 2025/08/27 الساعة: 19:02)

سأظل أتذكر، قصة الفلّاح وكيس الخيش، تحكي قصة الفلاح المصري البسيط وكيس الخيش: «أن فلاحاً كان يحمل كيساً من الخيش مملوءاً بالفئران الحية، وكان مسافراً في أحد قطارات الريف إلى القاهرة، وكان يجلس إلى جوار هذا الفلاح أحدُ المهندسين، لاحظ المهندس أن الفلاحَ يهزُّ الكيس عدة مرات بين الفينة والأخرى، سأل المهندسُ الفلاحَ عن محتويات هذا الكيس، قال الفلاح: في الكيس عدد كبير من الفئران اصطدتها حية لأبيعها لمركز الدراسات والأبحاث في القاهرة، ليُجروا عليها التجارب العلمية، وهذا مصدر رزقي»!

سأل المهندس الفلاح مرة أخرى: ولكن لماذا تهزُّ الكيس بين الفينة والأخرى؟

رد الفلاح: «أنا أهزُّ الكيس حتى لا تتمكن الفئران من قرض الكيس المصنوع من قماش الخيش لتحرر نفسها، فأنا أهزها باستمرار لتنشغل بمعاركها الداخلية بين بعضها البعض، لأن الفئران تعتقد أن حركة هزِّ الكيس ناتجةٌ عن مشاغبة وعبث بعض الفئران داخل الكيس، لذلك فهي تقتتل مع بعضها البعض، وتنشغل بحروبها الداخلية، وتنسى استخدام أسنانها الحادة لقرض كيس الخيش، فهي تنسى الحرية وتقتتل داخلياً!

تُعتبر قصة كيس الفئران السابقة دراسة صادقة عن تجربة فلاح بسيط، لآليات حكم جماهير العامة في المجتمعات المتخلفة غير الديموقراطية، لأن التخلص من ثورات الجماهير على الحكام الطغاة لا تتم إلا بإشغال الجماهير بقضايا فرعية تسبب الألم والخصام، مثل قطع التيار الكهربي والماء عن السكان، أو توقيف شبكة الإنترنت، أو إشغالهم بالمباريات الرياضية المقامة على أساس عرقي أو جهوي، وليس على أساس رياضي ديموقراطي، أو فرض الضرائب على وسائل الحياة، كل تلك الإشغالات بقضايا فرعية هي بالضبط مثلما فعل الفلاح البسيط، عندما واظب على هز كيس الفئران المصنوع من الخيش، بين الفترة والأخرى، ليحول المعركة من معركة على الانعتاق والحرية، إلى صراع داخلي بين الفئران!

هذه القصة أعادتني لدراسة كتابٍ مشهور جداً له علاقة بآليات التحكم في الجماهير، على الرغم من أنه كُتب عام 1895، هذا الكتاب اسمه «سيكلوجيا الجماهير» لمؤلفه الطبيب وعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي، غوستاف لوبون المتوفى عام 1931، لأنه يتحدث عن جماهير العامة في المجتمعات كافة، ظل الكتاب عمدة في تحليل نفسية الشعوب ومرجعاً في علم النفس الاجتماعي، وقد تتلمذ على هذا الكتاب كثيرون من الطغاة في العالم. عاش الكاتب في عصر العلماء والمكتشفين مثل، دارون، وفرويد، وبودلير وغيرهم، وقد سمّى بعضُ العلماء كتاب سيكلوجيا الجماهير، أسموه (ميكافيللي الثاني) أي أنه يشبه كتاب الأمير لكاتبه نيقولا ميكافيللي المتوفى عام 1527!

هذا الكتاب المعتمد عالمياً كان أشهر بكثير من مؤلف الكتاب نفسِه، لأن مؤلف الكتاب لم يحظَ بشهرة كتابه، لأن الكاتب غوستاف لوبون ظل محجوباً عن البروز كمؤلف يستحق الاحترام، غير مسموح له أن يكون محاضراً في جامعات فرنسا، لأن كثيرين اعتبروه كاتباً فاشياً، كثيرون أشاروا إلى أن السبب في سمعته المُضللة يعود إلى رأيه النقدي في اليهود. وأرجع آخرون السببَ إلى أنه نشر كتاباً ثانياً، (حضارة العرب) أشاد فيه بتأثير الحضارة العربية على دول الغرب، وجعل حضارة العرب هي السبب في ازدهار الحضارة الغربية، مع العلم أن كتاب حضارة العرب ظلَّ محظوراً من الانتشار مدة طويلة!

كتاب سيكلوجية الجماهير الذي ترجمه للعربية هاشم صالح، رصد بدقة طريقة تحول الفرد المثقف الواعي إلى أداة طائعة في أيدي الجماهير، بحكم انتمائه إلى عرقٍ وجنس معين، يصبح الفرد المثقف حين يلتحق بجماهير العوام غوغائياً، يتخلى عن ثقافته الذاتية وتميزه العلمي وفرادته، ويتحول من قائد إلى تابع للجماهير الغوغائية، يُقاد ولا يقود!

عاش غوستاف لوبون في عصر انحدار فرنسا وهزيمتها من الدول الأوروبية، وشخّص سبب الهزيمة، وأرجع السبب إلى هجوم الجماهير على مسرح التاريخ بدون أن يتمكنوا من ابتداع برنامج ثقافي وعقلي قادر على مواجهة الهزيمة مواجهة علمية محكمة!

تأثَّر عالم النفس سيغموند فرويد بكتاب سيكلوجيا الجماهير، كتب عنه قائلاً: «إن تركيز غوستاف لوبون على اللاوعي عند الجماهير يشبه نظريتي في اللاشعور، وهو المحرك الرئيس للبشر»!

من أبرز أقوال غوستاف لوبون في سيكلوجيا الجماهير: «صحيحٌ أن الجماهير قد تكون مجرمة، وقد تكون بطلة أيضاً، فمن السهل اقتياد الجماهير لارتكاب القتل باسم النضال من أجل انتصار عقيدة إيمانية، أو انتصار ما، ويمكن بث الحماسة في نفوس الجماهير، وتجييشهم وزجهم في الحروب بدون طعام أو سلاح كما حدث في الحروب الصليبية، حين رفعوا شعار تخليص قبر المسيح من الكافرين، كما أن الجماهير لا تعتمد العقلانية بل هي انفعالية، لذا فهي أدنى كفاءة من الفرد» (الكتاب صفحة 63)

وهو قد أشار إلى السرعة الفائقة في انتقال الجماهير بسرعة البرق من فكرة إلى فكرة نقيضة، تحت تأثير المحرضين ممن يقودون الجماهير، وهو أيضا يعتقد بأن الجماهير غير مؤهلة للتفكير العقلي والتأمل، وهي غير مؤهلة للمحاكمة العقلية، فهي تصدق أي شيء تسمعه، بلا تمحيص، الجماهير عند، غوستاف لوبون مؤهّلة فقط للانخراط والعمل، كما أنها كأوراق الشجر، تذروها الرياح وتلقي بها في أي مكان بلا حساب أو معرفة، وهو يصف كيف استطاع نابليون أن يضحي بثلاثة ملايين فرنسي في حروبه المتواصلة لتحقيق طموحه الشخصي فقط، لأنه كان واعياً بنفسية جماهير شعبه الفرنسي فقط، ولكنه كان قاصراً عن فهم جماهير الشعوب الأخرى التي خاض حروبه ضدها!

نعم تمكن غوستاف لوبون من وضع مبادئ استراتيجية ليدعم فكرته في ذوبان الشخصية الفردية في الجماعة، وقد وضع المبادئ التالية: يجب على القائد أن يعرف نفسيات الجمهور، لأن الفرد الواعي بالجماهير يكتسب القوة الفائقة بعد أن يتخلى عن قدراته وكفاءته الخاصة، وينزل من المرتبة الثقافية والفكرية عندما كان وحيداً إلى مرتبة جماهير العوام، ويتحول إلى إنسانٍ آليّ تقوده الجماهير، وهو أيضاً يضرب مثلاً عن أعضاء البرلمانات ممن كانوا قبل أن يصبحوا أعضاء في البرلمان لطيفين مفكرين حينما كانوا أشخاصاً وحيدين، ولكنهم تحولوا إلى حكام قامعين يُصدرون أحكاماً بالموت والإعدام على مخالفيهم، حينما وصلوا إلى سدة البرلمان أصبحوا تابعين لأعضاء البرلمان!

أشار غوستاف لوبون إلى أن الحكام يستطيعون التغرير بالجماهير بواسطة فرض الضرائب بمبالغ صغيرة على البضائع كلها، بحيث تجمع دخلاً كبيراً للحاكم، وهم عندما يفرضون الضرائب الكبيرة على مرتبات الجمهور وتجارتهم دفعة واحدة، فإن ذلك يؤدي إلى ثورة الجماهير على نظام حكمهم!