«إعلان نيويورك»: تفكيك الأبعاد السياسية والقانونية والاستراتيجية وتداعياته على مستقبل القضية الفلسطينية
نشر بتاريخ: 2025/08/01 (آخر تحديث: 2025/08/02 الساعة: 13:02)

متابعات: قدم الباحث في القانون الدولي وحقوق الإنسان المحامي علي أبو حبلة قراءة تحليلية موسعة لإعلان نيويورك .

مقدمة تحليلية موسعة

يأتي "إعلان نيويورك"، الصادر في 28 تموز/يوليو 2025، في لحظة حرجة من تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث تمر القضية الفلسطينية بمرحلة غير مسبوقة من التهميش السياسي والانقسام الداخلي والتطويق الإقليمي والدولي. وقد تم تسويق الإعلان على أنه "انفراجة ديبلوماسية" لإحياء عملية السلام، بينما تكشف القراءة النقدية للمضامين السياسية والقانونية والاستراتيجية للبيان عن مساعٍ لإعادة هندسة القضية الفلسطينية ضمن توازنات إقليمية ودولية جديدة، تتماهى مع الرؤية الإسرائيلية للسلام القسري المفروض، وليس السلام العادل.

أولاً: تفكيك البنية السياسية لإعلان نيويورك – الخلايا الخفية لإعادة إنتاج الاحتلال

1. تحييد مفهوم الاحتلال وتحويله إلى واقع دائم

إعلان نيويورك لم يأتِ على ذكر الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر، بل استخدم عبارات فضفاضة مثل "إنهاء النزاع" و"ضمان أمن جميع الأطراف"، ما يعكس انزياحاً لغوياً خطيراً يراد منه تحييد الطبيعة غير الشرعية للاحتلال وتحويلها إلى حالة نزاع قابلة للتسوية، دون معالجة جذورها الاستعمارية.

2. إعادة تعريف حل الدولتين بما يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية

بينما يتحدث البيان عن "دولتين تعيشان بسلام"، فإنه لا يشير لا إلى حدود عام 1967 ولا إلى القدس الشرقية، ولا إلى سيادة الدولة الفلسطينية. بهذا، يجري تمرير تصور هجين لدولة فلسطينية منزوعة السيادة، مقطعة الأوصال، بلا عاصمة، ولا جيش، ولا سيطرة على الحدود – ما يتطابق مع الخطة الإسرائيلية المعروفة بـ"السلام الاقتصادي".

3. مأسسة التطبيع العربي وتطويع القضية لخدمة التحالفات الجديدة

بروز السعودية إلى جانب فرنسا كراعٍ رئيسي للإعلان يبرز دوراً إقليمياً جديداً يربط بين التطبيع، الاستثمار، وإعادة الإعمار كحزمة واحدة. هذا التوجه لا يخدم الحقوق الفلسطينية بقدر ما يعيد تموضع الدول العربية ضمن تحالف إقليمي تقوده إسرائيل بدعم أمريكي، تحت عنوان "الاستقرار والتنمية".

ثانياً: التفكيك القانوني – خروقات ممنهجة للقانون الدولي

1. تجاوز الشرعية الدولية عبر مقاربة سياسية انتقائية

ينتقي البيان إشارات مبهمة إلى "مقررات الشرعية الدولية"، دون تحديدها، ويتجاهل عمداً قرارات مركزية مثل قرار مجلس الأمن 2334 (2016) الذي يصف الاستيطان بأنه "غير شرعي"، والقرار 194 الخاص بحق العودة، والقرار 3236 الذي يعترف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

2. تبييض الجرائم الإسرائيلية من خلال تجاهل المساءلة

غياب أي ذكر لجرائم الحرب، خاصة في قطاع غزة بعد حرب 2023-2024، يعكس تواطؤاً دولياً في محو سجل الانتهاكات الإسرائيلية، ويقوض الجهود المبذولة من قبل محكمة الجنايات الدولية، خاصة بعد إحالة تقارير أممية دامغة تدين استخدام إسرائيل للقوة المفرطة وتهجير المدنيين.

3. تقويض حق تقرير المصير كمبدأ تأسيسي

الإعلان لا يعترف بالشعب الفلسطيني ككيان قانوني له الحق في تقرير مصيره، بل يتعامل معه كـ"طرف في نزاع"، متجاهلاً قرارات الأمم المتحدة، وآراء محكمة العدل الدولية التي أكدت أن استمرار الاحتلال والاستيطان ينتهك هذا الحق بصورة مباشرة.

ثالثاً: البنية الاستراتيجية للإعلان – تصفية تدريجية للقضية

1. من مشروع تحرر وطني إلى مشروع "تحسين ظروف الحياة"

الإعلان يدفع باتجاه تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى إدارة مدنية تحت الاحتلال، مسؤولة عن تقديم الخدمات و"إعادة إعمار" ما دمرته إسرائيل، دون تمكين سياسي حقيقي أو سيادة.

2. ضرب رمزية حق العودة

عدم ذكر القرار 194، واستبداله بإشارات إلى "حل إنساني عادل"، يفتح الباب لتوطين اللاجئين في دول اللجوء أو إعادة توزيعهم في مناطق الحكم الذاتي، وهي مقدمة لتصفية رمزية وفعلية لجوهر القضية الفلسطينية.

3. تفكيك المقاومة وتجريمها

يدين البيان "كافة أشكال العنف"، دون التمييز بين المقاومة المشروعة بموجب القانون الدولي وبين الاعتداءات غير المشروعة. هذه المساواة تجرّد الفلسطينيين من أدوات المقاومة القانونية، وتقدم الرواية الإسرائيلية على أنها "دفاع عن النفس".

رابعاً: تحليل النوايا الحقيقية من خلف الإعلان – الهندسة الجيوسياسية الجديدة

1. إدماج إسرائيل في الهيكل الإقليمي الجديد

الهدف المركزي غير المعلن للإعلان هو ضمان دمج إسرائيل في النسيج الإقليمي من خلال مقايضة جزئية: تطبيع مقابل مشروع تنمية إقليمي، على حساب الحقوق الفلسطينية الجوهرية.

2. تهيئة المسرح لما بعد عباس

البيان يتضمن إشارات غير مباشرة إلى "إعادة هيكلة القيادة الفلسطينية" و"تمكين مؤسسات الحكم"، وهي إشارات تترجم على أنها استعداد غربي وعربي لمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، وقد تكون بداية لفرض قيادة فلسطينية بديلة متماهية مع الطرح الجديد.

3. استباق الانفجار الشعبي في الضفة والقطاع

من خلال الإغداق بالوعود الاقتصادية، يسعى الإعلان إلى احتواء الغضب الشعبي الفلسطيني المتصاعد، والالتفاف على المقاومة المتنامية، خاصة في الضفة الغربية، التي باتت تشهد صحوة ميدانية غير مسبوقة.

خامساً: التوصيات – استراتيجية فلسطينية مضادة

1. إعادة بناء الخطاب الفلسطيني الحقوقي والسياسي:

يجب تجاوز لغة المساومات السياسية إلى لغة الحقوق غير القابلة للتصرف، وتكريس الخطاب القانوني أمام المحاكم والمنابر الدولية.

2. التحرك نحو بناء جبهة عربية بديلة داعمة للحق الفلسطيني:

عبر تفعيل محور عربي شعبي – أكاديمي – برلماني مضاد، يعيد الاعتبار للموقف التاريخي الداعم لفلسطين، ويكسر هيمنة التحالفات الرسمية المنحازة.

3. إطلاق مقاومة سياسية وشعبية منسقة:

تشمل المقاطعة، والاحتجاج الدبلوماسي، والرفض القانوني لأي مرجعيات جديدة تنتقص من الحقوق، بالتوازي مع تفعيل أدوات النضال الشعبي في الداخل والخارج.

خاتمة نقدية شاملة

"إعلان نيويورك 2025" ليس إلا محاولة جديدة لصياغة نهاية مشوهة للقضية الفلسطينية، تُمرر من خلال أدوات دبلوماسية ناعمة، ولكنها محمّلة بأفخاخ قانونية واستراتيجية قاتلة. هو ليس بداية للحل، بل تكريس للهيمنة، وتصفية للحق، وشرعنة للباطل.

ولا بد من يقظة فلسطينية وعربية شاملة لإفشال هذا المشروع قبل أن يصبح مرجعية سياسية دولية ملزمة.

هوامش قانونية وسياسية موسعة

[1] قرار مجلس الأمن 2334 (2016): يرفض شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.

[2] رأي محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل (2004): يصف الجدار بأنه غير قانوني، ويطالب إسرائيل بهدمه.

[3] اتفاقيات جنيف الرابعة (1949): تنص على حماية المدنيين في أوقات الحرب وتمنع التغيير الديمغرافي القسري.

[4] القرار 3236 للجمعية العامة (1974): يعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير والعودة والاستقلال.

[5] تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن حرب غزة 2024 – مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

[6] المادة 1 من ميثاق الأمم المتحدة: تنص على احترام حق الشعوب في تقرير المصير كأحد الأهداف الرئيسية للأمم المتحدة.

[7] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: يُجرم الاستيطان والتهجير القسري ويصنفها كجرائم حرب.