هل باتت إسرائيل تخشى المجتمع الدولي؟
نشر بتاريخ: 2025/07/27 (آخر تحديث: 2025/07/27 الساعة: 23:24)

بعد أشهر من التجويع والتكذيب، إسرائيل تغيّر خطابها تحت الضغط الدولي... لكن هل تغيّرت أفعالها؟ إسرائيل لا تخشى المجتمع الدولي لأنها شعرت بالذنب، بل لأنها باتت تخاف من أن يُنادى باسمها في لاهاي.

لطالما كتبتُ أن الحكومة الإسرائيلية تنتهج سياسة خبيثة تتجنب فيها الاعتراف الرسمي باحتلال قطاع غزة. لكنها، في الواقع، تمارس الاحتلال بكل أبعاده: تتحكم بالمعابر، تحاصر السكان، تقصف من السماء ليلا ونهاراً، وتمنع الغذاء والدواء والماء. تسمي ذلك "عملية" لا احتلالًا، لأن الاعتراف القانوني بالاحتلال يحمّلها التزامات واضحة بموجب القانون الدولي، على رأسها تأمين الغذاء، والرعاية الصحية، والبنية التحتية للسكان. وهذه مسؤوليات ترفض إسرائيل تحمّلها.

إعلان الجيش الإسرائيلي عن "وقفات إنسانية" يومية في غزة، بدءًا من 27 تموز/يوليو، لا يعكس أي تحول أخلاقي، بل يكشف حالة ارتباك سياسي متصاعد. هذه الوقفات، التي تمتد لعشر ساعات في مناطق لا تنشط فيها القوات الإسرائيلية، جاءت بالتوازي مع تصاعد الضغط الدولي، وتزايد التقارير التي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة تجويع ممنهجة ترقى إلى الإبادة الجماعية.

مصادر مطلعة نقلت لصحيفة يديعوت أحرونوت أن الحكومة الإسرائيلية عاشت خلال الأيام الماضية حالة هستيريا حقيقية بسبب الضغوط الدولية، وأمرت بإعداد خطة "للسماح بكل شيء" لغزة "ودون قيود"، موضحة أن مسألة وصول المساعدات إلى حماس "لم تعد تعنيها حاليًا". وفي الوقت نفسه، أفادت قناة "كان" بأن المستوى السياسي يرفض حتى الآن توضيح أسباب إعلان وقف إطلاق النار لأغراض إنسانية، تاركًا المسؤولية للجيش وحده.

التجويع الذي يضرب قطاع غزة، خاصة في شماله، ليس خللًا تنظيميًا ولا عجزًا لوجستيًا، بل سياسة متعمدة. كانت الخطة أن يُحاصر الشمال ويُخنق حتى يُجبر السكان على النزوح، ثم يُعلن "النصر". لكن مئات الآلاف عادوا بعد وقف إطلاق النار، وكأن شيئًا لم يكن.

أما وسط القطاع، الذي زُعِم أنه "منطقة آمنة"، فتعرض لقصف عنيف طال خيام النازحين دون توقف. لا أحد يسيطر على غزة اليوم سوى الجيش الإسرائيلي: يحتلها، يتحرك فيها، يقصفها، يحاصرها. لكنه لا يعترف بمسؤوليته.

المشهد يعيد إلى الأذهان تجربة اليابان في الصين، حين رفضت طوكيو إعلان الحرب رسميًا لتجنب الالتزامات القانونية تجاه الأسرى، فاختارت قتلهم. كذلك تفعل إسرائيل: تحتل غزة دون اعتراف، وتترك السكان يموتون جوعاً.

أما ما تسميه إسرائيل "مراكز توزيع المساعدات"، فليست سوى مصائد قتل. أُنشئت هذه المراكز بدعم حكومي وتديرها شركات أمنية خاصة من المرتزقة، لغرض سياسي بحت: تسويق إنساني زائف يُرضي اليمين المتطرف ويُسكت الغرب.

منظمات الإغاثة الدولية رفضت التعاون معها، لأنها تدرك أن غياب التنظيم المحلي يؤدي إلى الفوضى والقتل، ويحرم الأشد حاجة من الوصول إلى الغذاء.

النموذج المستخدم في توزيع الطرود الغذائية مأخوذ عن برامج الأمم المتحدة في السودان واليمن، لكنه لا يصلح في غزة، حيث يتنقل السكان قسراً كل أسبوع بلا مأوى ثابت.

الخطة خلت تمامًا من المغذيات الطبية، وحليب الرضع، وأدوية سوء التغذية، وكأن الهدف لم يكن الإغاثة، بل إدارة الجوع.

لم تعد إسرائيل قادرة على تسويق خطابها القديم بشأن "سرقة المساعدات من قبل حماس".

صحيفة نيويورك تايمز نقلت عن أربعة مصادر إسرائيلية، بينهم ضباط، أن لا أدلة على سرقة المساعدات من قبل الحركة. وأكد تقرير داخلي صادر عن وكالة USAID الأمريكية الأمر نفسه. نظام توزيع الأمم المتحدة، بحسب هذه الشهادات، كان فعالًا وآمنًا.

وفي مواجهة هذا الانكشاف، لجأت إسرائيل إلى خطوات استعراضية: "وقفات إنسانية"، إسقاط مساعدات جوية، ممرات "آمنة"، وحتى إعادة الكهرباء لمحطة التحلية التي تخدم نحو 900 ألف شخص. كلها إجراءات تهدف إلى نفي التهمة الأخطر: التجويع المتعمد.

لكن هذه الخطوات جاءت متأخرة، وبعد وقوع الجريمة. وزارة الصحة في غزة أكدت أن 127 شخصًا ماتوا جوعًا منذ بدء الحرب، بينهم 85 طفلًا. مئات آخرون يعانون من سوء تغذية يهدد حياتهم، خاصة بين كبار السن والرضع والنساء الحوامل. والأسوأ: أكثر من 1,100 مدني قُتلوا أثناء انتظارهم الحصول على المساعدات.

هذه الأرقام ليست مجرد مأساة، بل لائحة اتهام مكتملة الأركان.

إسرائيل لا تخشى المجتمع الدولي بدافع أخلاقي، بل بدافع براغماتي. ما تخشاه هو خسارة شرعيتها السياسية والرمزية، وتحوّل قادتها من شركاء للغرب إلى متهمين في لاهاي.

لهذا تتحرك إسرائيل اليوم تحت ضغط التحقيقات والكاميرات والتقارير. ما تفعله ليس إنقاذًا للفلسطينيين، بل محاولة يائسة لإنقاذ صورتها. تُسقِط مساعدات محدودة، وتدّعي "التعاون" مع الأمم المتحدة التي اتهمتها قبل أيام بالفشل. المفارقة أن هذه التناقضات، بدلًا من تحسين صورتها، تُفضحها أكثر.

الوقفات الإنسانية ليست بادرة إنقاذ، بل محاولة استباقية لدرء المحاسبة، وتجميل جريمة لا يمكن تبريرها.