لم يكن الأب منويل مسلَّم بالنسبة لي مجرّد رجل دين مسيحي من أبناء فلسطين، بل كان حالة وطنية استثنائية، ورمزًا إنسانيًا ونضاليًا متفرّدًا. عرفته عن قرب خلال سنوات إقامته في قطاع غزة، ولا أبالغ إن قلت إنني وجدت فيه روحًا تُشبه أرواح الأنبياء، وضميرًا حيًّا يجلجل بالحق في وجه الظلم، لا يُهادن، ولا يخشى في الله لومة لائم.
عندما كانت إسرائيل تهاجم غزة وتدمّر البيوت والمساجد، كان الأب منويل يخرج إلى الناس، ويجلجل بصوته الأبوي العميق، مخاطبًا أبناء شعبه:
"إذا دمّروا مساجدكم، افتحوا كنائسنا لتصلّوا فيها؛ فنحن شعب واحد، ودمنا واحد، وقضيتنا واحدة."
كثيرًا ما تساءلت، مثل غيري من المثقفين والمفكرين: ما سرّ هذه الكاريزما الفريدة التي تميّز الأب منويل؟ ما الذي يجعل كلماته تترك هذا الأثر العميق في النفوس؟ وكيف لرجل مسيحي أن يُتّهم بأنه "الحمساوي المسيحي"، بسبب دفاعه المستميت عن المقاومة، وتأييده العلني لحركة حماس؟
لقد تابعت مواقفه وكتاباته باهتمام بالغ، وأشرفت على موسوعة معرفية ووثائقية عنه، صدرت في عشرة كتب عن معهد بيت الحكمة للاستشارات وحل النزاعات، كانت لي فيها مساهمة بثلاثة عناوين، سعيت من خلالها إلى توثيق هذا النموذج النضالي الذي قلّ نظيره.
كان الأب منويل صوتًا فلسطينيًا حرًّا، لا يساوم الاحتلال، ولا يلين في مواجهة الظلم. انتقد السياسات الإسرائيلية بلا هوادة، وندّد بفظائع التطهير العرقي والقتل الجماعي، لا سيما في حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة. كما لم يُوفّر نقده للسياسات الأمريكية والغربية، واعتبر تواطؤها مع مجرمي الحرب في إسرائيل، وعلى رأسهم نتنياهو، خيانة صريحة للقيم الإنسانية والأخلاقية.
في قلب المجازر، كان الأب منويل من أوائل الأصوات التي تصدح بالحق، وتدعو إلى كسر جدار الصمت. كتب، وصرّح، وناشد الضمائر الحية، وطالب العالم المسيحي بأن يقف إلى جانب المظلومين، لا الجلادين. كان يرى أن الانحياز الغربي الأعمى لإسرائيل لا يخدم السلام، بل يكرّس الاحتلال والعنف والظلم.
أما المسجد الأقصى، فقد كانت له في قلبه مكانة خاصة. زاره، والتقى بالشيخ عكرمة صبري، وأكّد مرارًا أن الدفاع عن المقدسات الإسلامية واجبٌ وطني وأخلاقي، لا يختص بدين دون آخر. وكان يردّد:
"القدس تجمعنا، والأقصى عنوان وحدتنا، والمقاومة شرف الأمة."
ولهذا، لم يكن غريبًا أن يُتّهم بأنه "مسيحي حمساوي"، وهو لم يرَ في هذه التهمة إلا وسامًا يعلّقه على صدره بفخر.
في غزة، عاش بين الناس، وتقاسم معهم المعاناة والصمود. لم يكن له بيت فخم، ولا مكتب مترف، بل غرفة بسيطة، وابتسامة دافئة، ويدٌ تمتد بالعطاء. كانت مدارسه في الزبابدة وغزة منارات تعليمية ووطنية، تستقبل أبناء فلسطين جميعًا، دون نظر إلى الطائفة أو الدين.
وكان يردّد دائمًا:
"نحن شعب واحد في مواجهة الاحتلال، لا يعنينا ما يقوله المتطرفون في الشرق أو الغرب، ولا تُفرّقنا العقائد إذا جمعتنا الأرض والهوية."
هذا الفهم العميق لوحدة المصير هو ما جعله رمزًا وطنيًا جامعًا.
لم تكن مواقفه نتاج انفعال عاطفي مؤقت، بل ثمرة قناعة فكرية وروحية راسخة. دافع عن إعادة آيا صوفيا مسجدًا، معتبرًا أن قدسية المكان تُصان بالعبادة، لا بالسياحة. وحين واجه هجومًا غربيًا شرسًا، لم يتراجع، بل ردّ بقوة:
"أعيدوا للمسلمين مسجد قرطبة، ثم تحدّثوا عن آيا صوفيا!"
على مدى سنوات طويلة من معرفتي به، لم أشهد له تراجعًا عن كلمة حق، ولا مساومة على مبدأ. كان حاضرًا في إفطارات رمضان، وفي المستشفيات متضامنًا مع ضحايا الاغتيالات، وفي كل موقف يستدعي كلمة صدق وموقف شرف.
وهو، رغم أصوله التي تعود إلى عائلة يمنية مرّت بالأردن واستقرّت في فلسطين، لم يشعر يومًا بأنه "وافد"، بل رأى في فلسطين أرض الرسالة، والوطن الذي يحتضن جميع أبنائه، مسلمين ومسيحيين، في وحدة الدم والمصير.
لقد جمعتُ بعضًا من كتاباته وشهاداته في مؤلّف بعنوان "الأب منويل مسلَّم.. من وحي الوطن"، ورأيت فيه صورةً لضميرٍ حيّ، ووجدانٍ وطني، وفكرٍ مقاوم، يُزاوج بين الإيمان بالإنسان، والانتماء للأرض، والدفاع عن الحق، أيًّا كان الثمن.
إنني، حين أكتب عنه اليوم، أستعيد صورة قامة بقيت شامخة رغم العواصف.
الأب منويل مسلَّم، كما رأيته، كان أيقونة وطن، وضميرًا إنسانيًا حيًّا، لا يعرف المواربة، ولا يتقن إلا قول الحق.
إنه باختصار:
رجلٌ مرّ من هنا... وترك أثرًا لا يُنسى.