اقتصاد بثلاثة وجوه وعملة غائبة ؛ هل ما زال ممكناً الحديث عن سيادة نقدية فلسطينية؟
نشر بتاريخ: 2025/07/14 (آخر تحديث: 2025/07/15 الساعة: 00:36)

في قلب الاقتصاد الفلسطيني المعاصر، تتجلى واحدة من أعقد المفارقات النقدية في العالم: اقتصاد يعتمد فعليًا على ثلاث عملات أجنبية، دون أن يمتلك عملة وطنية. الشيكل الإسرائيلي هو العملة المهيمنة في رواتب الموظفين والمعاملات الحكومية؛ الدينار الأردني يُستخدم في الادخار والعقارات؛ أما الدولار الأمريكي فهو عملة القروض والاستيراد. هذا التشظي النقدي يعكس هشاشة السيادة الاقتصادية، ويجعل إدارة المخاطر المالية والائتمانية أقرب إلى المغامرة، سواء للمؤسسات أو الأفراد.

في ظل غياب سياسة نقدية مستقلة، يخضع الاقتصاد الفلسطيني بالكامل للتقلبات الخارجية، لا سيما في أسعار العملات وأسعار الفائدة العالمية. فقرار برفع الفائدة من مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أو من بنك إسرائيل، لا يمر عبر المؤسسات الفلسطينية، لكنه يترك أثرًا مباشرًا على حياة المواطن الفلسطيني، وعلى قدرة البنوك على منح القروض أو تحصيلها، وعلى استقرار الشركات وأسعار السلع والخدمات.

ولعلّ أخطر ما في هذا الواقع النقدي المشوّش، هو انعكاسه على المخاطر الائتمانية. إذ تُمنح معظم القروض بالدولار أو الدينار، بينما تُدفع الرواتب بالشيكل. أي أن المقترض يواجه مخاطرة مزدوجة: ارتفاع سعر صرف الدولار أو الدينار مقابل الشيكل يعني زيادة مباشرة في قيمة قسطه الشهري، دون أن يزداد دخله. هذا الخلل البنيوي يهدد الاستقرار المالي للأسر، ويزيد من احتمالات التعثر، ويُربك خطط البنوك في إدارة محافظها الائتمانية.

في هذا السياق، يصبح من الضروري طرح سؤال جوهري: هل يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن يستمر بهذه البنية النقدية؟ أم أن الوقت قد حان للتفكير في عملة فلسطينية مستقلة، أو على الأقل أدوات مالية حديثة تقلل من هذه المخاطر؟

في العديد من الدول التي لا تمتلك سيطرة كاملة على سياستها النقدية، تلعب المشتقات المالية دوراً حيوياً في التحوّط ضد تقلبات أسعار الصرف وأسعار الفائدة. هذه الأدوات، التي تشمل العقود الآجلة والمستقبلية والخيارات، تسمح للبنوك والشركات وحتى الأفراد بتقليل مخاطر السوق. لكن في فلسطين، لا توجد سوق مشتقات فعلية، ولا إطار تنظيمي يسمح بتداولها، ما يُبقي السوق مكشوفًا أمام تقلبات غير متوقعة.

وما يعمّق الأزمة أن سلطة النقد الفلسطينية لا تمتلك الأدوات التقليدية للبنوك المركزية، مثل تحديد سعر الفائدة أو التحكم في عرض النقود أو شراء العملات الأجنبية وبيعها في السوق المفتوحة. وبالتالي، فهي تمارس نوعًا من "الإشراف النقدي" في غياب "السيادة النقدية".

تشير إحصاءات رسمية إلى أن أكثر من 90% من الرواتب تُدفع بالشيكل، بينما أكثر من 60% من القروض تُمنح بالدولار، في مفارقة تكفي وحدها لإبراز هشاشة النظام المالي ومع كل أزمة سياسية أو أمنية، أو مع كل تقلب في الأسواق العالمية، تنكشف هذه الهشاشة أكثر فأكثر.

هنا وبالرغم من أن إصدار عملة وطنية فلسطينية قد يبدو حلمًا بعيد المنال في ظل قيود الاحتلال الإسرائيلي واتفاقية باريس الاقتصادية التي تُكبّل القرار المالي الفلسطيني، إلا أن هناك خطوات واقعية وملحّة يمكن اتخاذها فورًا للتخفيف من مخاطر تعدد العملات على الاقتصاد الفلسطيني.

من هذه الخطوات، الشروع بتأسيس سوق محلية لأدوات التحوّط المالي، تبدأ بعقود العملات التي تتيح للمصارف والمؤسسات حماية نفسها من تقلبات أسعار الصرف. كما ينبغي إعادة النظر في سياسات التسعير الائتماني لتأخذ بالحسبان تقلب العملات الثلاث (الدولار، الدينار، والشيكل)، خاصة أن بعض المقترضين يتقاضون رواتبهم بعملة ويقسطون ديونهم بأخرى. إضافة إلى ذلك، يمكن إطلاق صندوق مركزي وطني للتحوّط، يوفّر مظلة حماية للمواطنين والمؤسسات الصغيرة ضد تقلبات العملة المفاجئة. ومن الضروري أيضًا تعزيز الشفافية في العقود المصرفية، من خلال إدراج بنود واضحة تتعلق بتغيرات سعر الصرف وتأثيرها على التزامات المقترضين. وفي النهاية، لا بد من تحريك الموقف الفلسطيني خارجيًا، بمطالبة المجتمع الدولي بدعم خطوات فعلية لتعزيز السيادة النقدية الفلسطينية، كجزء من مسار أوسع للتحرر الاقتصادي.في الختام، الاقتصاد الفلسطيني لا يستطيع انتظار الاستقلال السياسي الكامل كي يبدأ ببناء استقلاله النقدي. صحيح أن إصدار عملة وطنية قد لا يكون وشيكًا، لكن تعزيز أدوات السيادة المالية، وإدخال آليات السوق الحديثة، يمكن أن يكون نقطة بداية جادة نحو بناء اقتصاد أكثر استقرارًا، وأقل هشاشة.